المسألة الثانية : معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقاً عليكم في الحال، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل وبالضد، ولأجله حسن شرب الدوا المرء في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتوقع حصول الربح في المستقبل، وحسن تحمل المشاق في طلب العلم للفوز بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى، وههنا كذلك وذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل، وصون المال عن الإنفاق، ولكن فيه أنواع من المضار منها : أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصة بلادكم وحاول قتلكم فأما أن يأخذكم ويستبيح دماءكم وأموالكم، وإما أن تحتاجوا إلى قتالهم من غير إعداد آلة وسلاح، وهذا يكون كترك مداواة المرض في أول ظهوره بسبب نفرة النفس عن تحمل مرارة الدواء، ثم في آخر الأمر يصير المرء مضطراً إلى تحمل أضعاف تلك النفرة والمشقة، والحاصل أن القتال سبب لحصول الأمن، وذلك خير من الانتفاع بسلامة الوقت، ومنها وجدان الغنيمة، ومنها / السرور العظيم بالاستيلاء على الأعداء.
أما ما يتعلق بالدين فكثيرة، منها ما يحصل للمجاهد من الثواب العظيم إذا فعل الجهاد تقرباً وعبادة وسلك طريقة الاستقامة فلم يفسد ما فعله، ومنها أنه يخشى عدوكم أن يستغنمكم فلا تصبرون على المحنة فترتدون عن الدين، ومنها أن عدوكم إذا رأى جدكم في دينكم وبذلكم أنفسكم وأموالكم في طلبه مال بسبب ذلك إلى دينكم فإذا أسلم على يدكم صرتم بسبب ذلك مستحقين للأجر العظيم عند الله، ومنها أن من أقدم على القتال طلباً لمرضاة الله تعالى كان قد تحمل ألم القتل بسبب طلب رضوان الله، وما لم يصر الرجل متيقناً بفضل الله وبرحمته وأنه لا يضيع أجر المحسنين، وبأن لذات الدنيا أمور باطلة لا يرضى بالقتل ومتى كان كذلك فارق الإنسان الدنيا على حب الله وبغض الدنيا، وذلك من أعظم سعادات الإنسان.
فثبت بما ذكرنا أن الطبع ولو كان يكره القتال من أعداء الله فهو خير كثير وبالضد، ومعلوم أن الأمرين متى تعارضا فالأكثر منفعة هو الراجح وهذا هو المراد من قوله :﴿وَعَسَى ا أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم وَعَسَى ا أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾.
المسألة الثالثة :﴿الشَّرَّ﴾ السوء وأصله من شررت الشيء إذا بسطته، يقال شررت اللحم والثوب إذا بسطته ليجف، ومنه قوله :
وحتى أشرت بالأكف المصاحف
اللهب لانبساطه فعلى هذا ﴿لِلنَّاسِ الشَّرَّ﴾ انبساط الأشياء الضارة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٨٤
المسألة الرابعة :﴿عَسَى ﴾ توهم الشك مثل ﴿لَعَلَّ﴾ وهي من الله تعالى يقين، ومنهم من قال إنها كلمة مطمعة، فهي لا تدل على حصول الشك للقائل إلا أنها تدل على حصول الشك للمستمع وعلى هذا التقدير لا يحتاج إلى التأويل، أما إن قلنا بأنها بمعنى ﴿لَعَلَّ﴾ فالتأويل فيه هو الوجوه المذكورة في قوله تعالى :﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة : ١٨٣) قال الخليل :﴿عَسَى ﴾ من الله واجب في القرآن قال :﴿فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ﴾ (المائدة : ٥٢) وقد وجد ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا ﴾ (يوسف : ٨٣) وقد حصل والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ فالمقصود منه الترغيب العظيم في الجهاد وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد قصور علم نفسه، وكمال علم الله تعالى، ثم علم أنه سبحانه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيرته ومصلحته، علم قطعاً أن الذي أمره الله تعالى به وجب عليه امتثاله، سواء كان مكروهاً للطبع أو لم يكن فكأنه تعالى قال : يا أيها العبد اعلم أن علمي أكمل من علمك فكن مشتغلاً بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة ﴿إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٨٤
٣٨٦
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن هذا السائل أكان من المسلمين أو من الكافرين والقائلون بأنه من المسلمين فريقان الأول : الذين قالوا إنه تعالى لما كتب عليهم القتال وقد كان عند القوم الشهر الحرام والمسجد الحرام أعظم الحرمة في المنع من القتال لم يبعد عندهم أن يكون الأمر بالقتال مقيداً بأن يكون في غير هذا الزمان وفي غير هذا المكان فدعاهم ذلك إلى أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلّم، فقالوا : أيحل لنا قتالهم في هذا الشهر وفي هذا الموضع ؟
فنزلت الآية، فعلى هذا الوجه الظاهر أن هذا السؤال كان من المسلمين.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٨٦