فإن قيل : لم نكر القتال في قوله تعالى :﴿قِتَالٍ فِيه ﴾ ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجيء باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور الثاني غير الأول كما في قوله تعالى :﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح : ٦).
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٨٦
قلنا : نعم ما ذكرتم أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني إذن غير الأول والقوم أرادوا بقولهم :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه ﴾ ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش، فقال تعالى :﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيراً ليس هو هذا القتال الذي سألتم عنه، بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الفكر فكيف يكون هذا من الكبائر، إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة إلا أنه تعالى ما صرح بهذا الكلام لئلا تضيق قلوبهم بل أبهم الكلام بحيث يكون ظاهره كالموهم لما أرادوه، وباطنه يكون موافقاً للحق، وهذا إنما حصل بأن ذكر هذين اللفظين على سبيل التنكير، ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة الجليلة، فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولوا الألباب.
المسألة الثانية : اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ فنقل عن ابن جريج أنه قال : حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا على سبيل الدفع/ روى جابر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام ؟
قال نعم، قال أبو عبيد : والناس بالثغور اليوم جميعاً على هذا القول يرون الغزو مباحاً في الشهور كلها، ولم أر أحداً من علماء الشام والعراق ينكره عليهم كذلك حسب قول أهل الحجاز.
والحجة في إباحته قوله تعالى :﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ (التوبة : ٥) وهذه الآية ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام، والذي عندي أن قوله تعالى :﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ هذا نكرة في سياق الإثبات فيتناول فرداً واحداً، ولا يتناول كل الأفراد، فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مطلقاً في الشهر الحرام، فلا حاجة إلى تقدير النسخ فيه.
أما قوله تعالى :﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرُا بِه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِه مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّه ﴾ ففيه مسألتان :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٨٦
المسألة الأولى : للنحويين في هذه الآية وجوه الأول : قول البصريين وهو الذي اختاره الزجاج، أن قوله :﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرُا بِه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِه مِنْهُ﴾ كلها مرفوعة بالابتداء، وخبرها قوله :﴿أَكْبَرُ عِندَ اللَّه ﴾ والمعنى : أن القتال الذي سألتم عنه، وإن كان كبيراً، إلا أن هذه الأشياء أكبر منه، فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام، فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أن له فيه عذراً ظاهراً، فإنه كان يجوز أن يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة، ونظيره قوله تعالى لبني إسرائيل :﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ﴾ (البقرة : ٤٤)، ﴿ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ (الصف : ٢) وهذا وجه ظاهر، إلا أنهم اختلفوا في الجر في قوله :﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وذكروا فيه وجهين أحدهما : أنه عطف على الهاء في به والثاني : وهو قول الأكثرين : أنه عطف على ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قالوا : وهو متأكد بقوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (الحج : ٢٥).
واعترضوا على الوجه الأول بأنه لا يجوز العطف على الضمير، فإنه لا يقال : مررت به وعمرو، وعلى الثاني بأن على هذا الوجه يكون تقدير الآية : صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، فقوله :﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (المائدة : ٢) صلة للصد، والصلة والموصول في حكم الشيء الواحد، فإيقاع الأجنبي بينهما لا يكون جائزاً.