والقول الثاني : أن الفتنة هي ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم، تارة بإلقاء الشبهات في قلوبهم، وتارة بالتعذيب، كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر، وهذا قول محمد بن إسحاق وقد ذكرنا أن الفتنة عبارة عن الامتحان، يقال فتنت الذهب بالنار إذا أدخلته فيها لتزيل الغش عنه، ومنه قوله تعالى :﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ (التغابن : ١٥) أي امتحان لكم لأنه إذا لزمه إنفاق المال في سبيل الله تفكر في ولده، فصار ذلك مانعاً له عن الإنفاق، وقال تعالى :﴿ الر * ذَالِكَ الْكِتَـابُ لا رَيْبَا فِيه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (العنكبوت : ١، ٢) أي لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء، وقال :﴿وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا ﴾ (طه : ٤٠) وإنما هو الامتحان بالبلوى، وقال :﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ (العنكبوت : ١٠) والمراد به المحنة التي تصيبه من جهة الدين من الكفار وقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾ (البروج : ١٠) والمراد أنهم آذوهم وعرضوهم على العذاب ليمتحنوا ثباتهم على دينهم، وقال :﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلواةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (النساء : ١٠١) وقال :﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَـاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ (الصافات : ١٦٢، ١٦٣) وقال :﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ﴾ (آل عمران : ٧) أي المحنة في الدين وقال :﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنا بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ (المائدة : ٤٩) وقال :﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (الممتحنة : ٥) وقال :﴿رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ﴾ (يونس : ٨٥) والمعنى أن يفتنوا بها عن دينهم فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر والظلم وقال :﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ (القلم : ٦٥) قيل : المفتون المجنون، والجنون فتنة، إذ هو محنة وعدول عن سبيل أهل السلامة في العقول.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٨٦
فثبت بهذه الآيات أن الفتنة هي الامتحان، وإنما قلنا : إن الفتنة أكبر من القتل لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا، وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة، فصح أن الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي.
روى أنه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش صاحب هذه السرية إلى مؤمني مكة : إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من مكة، ومنع المؤمنين عن البيت الحرام قال : ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} والمعنى ظاهر، ونظيره قوله تعالى : والمعنى ظاهر، ونظيره قوله تعالى :﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَـارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ (البقرة : ١٢٠).
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما زال يفعل كذا، ولا يزال يفعل كذا، قال الواحدي : هذا فعل لا مصدر له، ولا يقال منه : فاعل ولا مفعول، ومثاله في الأفعال كثير نحو ﴿عَسَى ﴾ ليس له مصدر ولا مضارع وكذلك : ذو، وما فتىء، وهلم، وهاك، وهات، وتعال، ومعنى :﴿وَلا يَزَالُونَ﴾ أي يدومون على ذلك الفعل لأن الزوال يفيد النفي فإذا أدخلت عليه : ما، كان ذلك نفياً للنفي فيكون دليلاً على الثبوت الدائم.
المسألة الثانية : قوله :﴿حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ﴾ أي إلى أن يردوكم وقيل المعنى : ليردوكم.
المسألة الثالثة : قوله :﴿إِنِ اسْتَطَـاعُوا ﴾ استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي فلا تبق على وهو واثق بأنه لا يظفر به.
ثم قال تعالى :﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي قوله :﴿وَمَن يَرْتَدِدْ﴾ أظهر التضعيف مع الجزم لسكون الحرف الثاني : وهو أكثر في اللغة من الإدغام، وقوله :﴿فَيَمُتْ﴾ هو جزم بالعطف على ﴿يَرْتَدِدْ﴾ وجوابه ﴿لَمَعَكُم حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ﴾.
المسألة الثانية : لما بين تعالى أن غرضهم من تلك المقاتلة هو أن يرتد المسلمون عن دينهم، ذكر بعده وعيداً شديداً على الردة، فقال :﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِه فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوالَـا ئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ ﴾ واستوجب العذاب الدائم في النار.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٨٦


الصفحة التالية
Icon