قلنا : الجواب من وجوه أحدها : أن مذهبنا أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب عقلاً، بل بحكم الوعد، فلذلك علقه بالرجاء وثانيها : هب أنه واجب عقلاً بحكم الوعد، ولكنه تعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك فيه لا متيقن، فلا جرم كان الحاصل هو الرجاء لا القطع وثالثها : أن المذكور ههنا هو الإيمان، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها، كما وفقه لهذه الثلاثة، فلا جرم علقه على الرجاء ورابعها : ليس المراد من الآية أن الله شكك العبد في هذه المغفرة، بل المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد، مستقصرين أنفسهم في حق الله تعالى، يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه، فيقدمون على الله مع الخوف والرجاء، كما قال :﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ (المؤمنون : ٦٠).
القول الثاني : أن المراد من الرجاء : القطع واليقين في أصل الثواب، والظن إنما دخل في كميته وفي وقته، وفيه وجوه قررناها في تفسير قوله تعالى :﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ﴾ (البقرة : ٤٦).
ثم قال تعالى :﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي إن الله تعالى يحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح/ وأنه غفور رحيم، غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم.
الحكم الثالث
في الخمر
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٤
٣٩٥
اعلم أن قوله :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾ ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا، فإنه يحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع به، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة دل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان وقعاً عن الحل والحرمة.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قالوا : نزلت في الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله تعالى :﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ (النحل : ٦٧) وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزل فيها قوله تعالى :﴿قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ﴾ فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم، فشربوا وسكروا، فقام بعضهم يصلي فقرأ : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، فنزلت :﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى ﴾ (النساء : ٤٣) فقل من شربها، ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء للأنصار، فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه شجة موضحة، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل :﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ إلى قوله :﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ (المائدة : ٩١) فقال عمر : انتهينا يا رب، قال القفال رحمه الله : والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم قد كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج، وهذا الرفق، ومن / الناس من قال بأن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية، ثم نزل قوله تعالى :﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى ﴾ فاقتضى ذلك تحريم شرب الخمر وقت الصلاة، لأن شارب الخمر لا يمكنه أن يصلي إلا مع السكر، فكان المنع من ذلك منعاً من الشرب ضمناً، ثم نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوة في التحريم، وعن الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٥
المسألة الثانية : اعلم أن عندنا أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر فنفتقر إلى بيان أن الخمر ما هو ؟
ثم إلى بيان أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر.