اعلم أن هذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد ههنا فأجيب عنه بذكر الكمية، قال القفال : قد يقول الرجل لآخر يسأله عن مذهب رجل وخلقه ما فلان هذا ؟
فيقول : هو رجل من مذهبه كذا، ومن خلقه كذا إذا عرفت هذا فنقول : كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه/ سألوا عن مقدار ما كلفوا به، هل هو كل المال أو بعضه، فأعلمهم الله أن العفو مقبول، وفي الآية مسائل :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٥
المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : أصل العفو في اللغة الزيادة، قال تعالى :﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ (الأعراف : ١٩٩) أي الزيادة، وقال أيضاً :﴿حَتَّى عَفَوا ﴾ (الأعراف : ٩٥) أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد قال القفال : العفو ما سهل وتيسر مما يكون فاضلاً عن الكفاية يقال : خذ ما عفا لك، أي ما تيسر ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعاً إلى التيسر والتسهيل، قال عليه الصلاة والسلام :"عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا ربع عشر أموالكم" معناه التخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرقيق، ويقال : أعفى فلان فلاناً بحقه إذا أوصله إليه من غير إلحاح في المطالبة، وهو راجع إلى التخفيف ويقال : أعطاه كذا عفواً صفواً، إذا لم يكدر عليه بالأذى، ويقال : خذ من الناس ما عفا لك أي ما تيسر، ومنه قوله تعالى :﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ (الأعراف : ١٩٩) أي ما سهل لك من الناس، ويقال للأرض السهلة : العفو وإذا كان العفو هو التيسير فالغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤنتهم فقول من قال : العفو هو الزيادة راجع إلى التفسير الذي ذكرناه وجملة التأويل أن الله تعالى أدب الناس في الإنفاق فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام :﴿وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَـاطِينِ ﴾ (الإسراء : ٢٦، ٢٧) وقال :﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ وقال :﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ﴾ (الفرقان : ٦٧) وقال صلى الله عليه وسلّم :"إذا كان عند أحدكم شيء فليبدأ بنفسه، ثم بمن يعول وهكذا وهكذا" وقال / عليه الصلاة والسلام :"خير الصدقة ما أبقت غني ولا يلام على كفاف" وعن جابر بن عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم، إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال : يا رسول الله خذها صدقة فوالله لا أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم أتاه من بين يديه، فقال : هاتها مغضباً فأخذها منه، ثم حذفه بها حيث لو أصابته لأوجعته، ثم قال : يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره، ثم يجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة، وقال الحكماء : الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط، فالإنفاق الكثير هو التبذير، والتقليل جداً هو التقتير، والعدل هو الفضيلة وهو المراد من قوله :﴿قُلِ الْعَفْوَ ﴾ ومدار شرع محمد صلى الله عليه وسلّم على رعاية هذه الدقيقة فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة، وشرع النصارى على المسامحة التامة، وشرع محمد صلى الله عليه وسلّم متوسط في كل هذه الأمور، فلذلك كان أكمل من الكل.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٩٥
المسألة الثانية : قرأ أبو عمرو (العفو) بضم الواو والباقون بالنصب، فمن رفع جعل ﴿ذَا﴾ بمعنى ﴿الَّذِى﴾ وينفقون صلته كأنه قال : ما الذي ينفقون ؟
فقال : هو العفو ومن نصب كان التقدير : ما ينفقون وجوابه : ينفقون العفو.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن المراد بهذا الإنفاق هو الإنفاق الواجب أو التطوع، أما القائلون بأنه هو الإنفاق الواجب، فلهم قولان الأول : قول أبي مسلم يجوز أن يكون العفو هو الزكاة فجاء ذكرها ههنا على سبيل الإجمال، وأما تفاصيلها فمذكورة في السنة الثاني : أن هذا كان قبل نزول آية الصدقات فالناس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم/ ثم ينفقوا الباقي، ثم صار هذا منسوخاً بآية الزكاة فعلى هذا التقدير تكون الآية منسوخة.
القول الثاني : أن المراد من هذا الإنفاق هو الإنفاق على سبيل التطوع وهو الصدقة واحتج هذا القائل بأنه لو كان مفروضاً لبين الله تعالى مقداره فلما لم يبين بل فوضه إلى رأي المخاطب علمنا أنه ليس بفرض.
وأجيب عنه : بأنه لا يبعد أن يوجب الله شيئاً على سبيل الإجمال، ثم يذكر تفصيله وبيانه بطريق آخر.
أما قوله :﴿كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ﴾ فمعناه أني بينت لكم الأمر فيما سألتم عنه من وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا أبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون.


الصفحة التالية
Icon