المسألة الأولى :"الإعنات" الحمل على مشقة لا تطاق يقال : أعنت فلان فلاناً إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه وتعنته تعنتاً إذا لبس عليه في سؤاله، وعنت العظم المجبور إذا انكسر بعد الجبر وأصل ﴿الْعَنَتَ﴾ من المشقة، وأكمة عنوت إذا كانت شاقة كدوداً، ومنه قوله تعالى :﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ (التوبة : ١٢٨) أي شديد عليه ما شق عليكم، ويقال أعنتني في السؤال أي شدد علي وطلب عنتي وهو الإضرار وأما المفسرون فقال ابن عباس : لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً وقال عطاء : ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقة كما أدخلتم على أنفسكم ولضيق الأمر عليكم في مخالطتهم، وقال الزجاج : ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم.
المسألة الثانية : احتج الجبائي بهذه الآية، فقال : إنها تدل على أنه تعالى لم يكلف العبد بما لا يقدر عليه، لأن قوله :﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ﴾ يدل على أنه تعالى لم يفعل الإعنات والضيق في التكليف، ولو كان مكلفاً بما لا يقدر العبد عليه لكان قد تجاوز حد الإعنات وحد الضيق.
واعلم أن وجه هذا الاستدلال أن كلمة ﴿لَوْ﴾ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ثم سألوا أنفسهم بأن هذه الآية وردت في حق اليتيم، وأجابوا عنه بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأيضاً فولى هذا اليتيم قد لا يفعل تعالى فيه قدرة الإصلاح، لأن هذا هو قولهم فيمن يختار خلاف الإصلاح وإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يقول تعالى فيه خاصة ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ﴾ مع أنه كلفه بما لا يقدر عليه، ولا سبيل له إلى فعله، وأيضاً فالإعنات لا يصح إلا فيمن يتمكن من الشيء فيشق عليه ويضيق، فأما من لا يتمكن البتة فذلك لا يصح فيه، وعند الخصم الولي إذا اختار الصلاح فإنه لا يمكنه فعل الفساد، وإذا لم يقدر على الفساد لا يصح أن يقال فيه ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ﴾.
والجواب عنه : المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم.
المسألة الثالثة : احتج الكعبي بهذه الآية على أنه تعالى قادر على خلاف العدل، لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات ما جاز أن يقول :﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ﴾ وللنظام أن يجيب بأن هذا معلق على مشيئة الإعنات، فلم قلتم بأن هذه المشيئة ممكنة الثبوت في حقه تعالى، والله أعلم.
الحكم السادس
فيما يتعلق بالنكاح
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٠٤
٤٠٧
اعلم أن هذه الآية نظير قوله :﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ وقرىء بضم التاء، أي لا تزوجوهن وعلى هذه القراءة لا يزوجونهن.
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أن هذه الآية ابتداء حكم وشرع، أو هو متعلق بما تقدم، فالأكثرون على أنه ابتداء شرع في بيان ما يحل ويحرم، وقال أبو مسلم : بل هو متعلق بقصة اليتامى، فإنه تعالى لما قال :﴿وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ (البقرة : ٢٢٠) وأراد مخالطة النكاح عطف عليه ما يبعث على الرغبة في اليتامى، وأن ذلك أولى مما كانوا يتعاطون من الرغبة في المشركات، وبين أن أمة مؤمنة خير من مشركة وإن بلغت النهاية فيما يقتضي الرغبة فيها، ليدل بذلك على ما يبعث على التزوج باليتامى، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعية لما أمر به من النظر في صلاحهم وصلاح أموالهم، وعلى الوجهين فحكم الآية لا يختلف، ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : روي عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثد بن أبي مرثد حليفاً لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناساً من المسلمين بها سراً، فعند قدومه جاءته امرأته يقال لها عناق خليلة له في الجاهلية، أعرضت عنه عند الإسلام، فالتمست الخلوة، فعرفها أن الإسلام يمنع من ذلك، ثم وعدها أن يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلّم ثم يتزوج بها، فلما انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عرفه ما جرى في أمر عناق، وسأله هل يحل له التزوج بها فأنزل الله تعالى / هذه الآية.
المسألة الثانية : اختلف الناس في لفظ النكاح، فقال أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله : إنه حقيقة في العقد، واحتجوا عليه بوجوه أحدها : قوله عليه الصلاة والسلام :"لا نكاح إلا بولي وشهود" وقف النكاح على الولي والشهود، والمتوقف على الولي والشهود هو العقد لا الوطء، والثاني : قوله عليه الصلاة والسلام :"ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح" دل الحديث على أن النكاح كالمقابل للسفاح، ومعلوم أن السفاح مشتمل على الوطء، فلو كان النكاح اسماً للوطء لامتنع كون النكاح مقابلاً للسفاح وثالثها : قوله تعالى :﴿وَأَنكِحُوا الايَـامَى مِنكُمْ وَالصَّـالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآاـاِكُمْ ﴾ (النور : ٣٢) ولا شك أن لفظ لا يمكن حمله إلا على العقد ورابعها : قول الأعشى، أنشده الواحدي في "البسيط" :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٠٧
فلا تقربن من جارة إن سرها
عليك حرام فانكحن أو تأيما