قلنا : بتقدير أن يكون المحيض عبارة عن الحيض، فالحيض في نفسه ليس بأذى لأن الحيض عبارة عن الدم المخصوص، والأذى كيفية مخصوصة، وهو عرض، والجسم لا يكون نفس العرض، فلا بد وأن يقولوا : المراد منه أن الحيض موصوف بكونه أذى، وإذا جاز ذلك فيجوز لنا أيضاً أن نقول : المراد أن ذلك الموضع ذو أذى، وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد من المحيض الأول هو الحيض، ومن المحيض الثاني موضع الحيض، وعلى هذا التقدير يزول ما ذكرتم من الإشكال، فهذا ما عندي في هذا الموضع وبالله التوفيق.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤١٤
أما قوله تعالى :﴿قُلْ هُوَ أَذًى﴾ فقال عطاء وقتادة والسدي : أي قذر، واعلم أن الأذى في اللغة ما يكره من كل شيء وقوله :﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ ﴾ الاعتزال التنحي عن الشيء، قدم ذكر العلة وهو الأذى، ثم رتب الحكم عليه، وهو وجوب الإعتزال.
فإن قيل : ليس الأذى إلا الدم وهو حاصل وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة في الاستحاضة غير واجب فقد انتقضت هذه العلة.
قلنا : العلة غير منقوضة لأن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم، ولو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة، فذلك الدم جار مجرى البول والغائط، فكان أذى وقذر، أما دم الاستحاضة فليس كذلك، بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر في عمق الرحم فلا يكون أذى، هذا ما عندي في هذا الباب، وهو قاعدة طيبة، وبتقريرها يتلخص ظاهر القرآن من الطعن والله أعلم بمراده.
المسألة الرابعة : اعلم أن دم الحيض موصوف بصفات حقيقية ويتفرع عليه أحكام شرعية، أما الصفات الحقيقية فأمران أحدهما : المنبع ودم الحيض دم يخرج من الرحم، قال تعالى :﴿وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ﴾ (البقرة : ٢٢٨) قيل في تفسيره : المراد منه الحيض والحمل، وأما دم الاستحاضة، فإنه لا يخرج من الرحم، لكن من عروق تنقطع في فم الرحم، قال عليه والسلام في صفة دم الاستحاضة :"إنه دم عرق انفجر" وهذا الكلام يؤيد ما ذكرنا في دفع للنقض / عن تعليل القرآن.
والنوع الثاني : من صفات دم الحيض : الصفات التي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلّم دم الحيض بها أحدها : أنه أسود والثاني : أنه ثخين والثالث : أنه محتدم وهو المحترق من شدة حرارته الرابعة : أنه يخرج برفق ولا يسيل سيلاناً والخامسة : أن له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة السادسة : أنه بحراني، وهو شديد الحمرة وقيل : ما تحصل فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر، فهذه الصفات هي الصفات الحقيقية.
ثم من الناس من قال : دم الحيض يتميز عن دم الاستحاضة فكل دم كان موصوفاً بهذه الصفات فهو دم الحيض، وما لا يكون كذلك لا يكون دم حيض، وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف وزوالها إنما يكون لعارض الحيض، فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف التي كانت واجبة على ما كان، ومن الناس من قال : هذه الصفات قد تشتبه على المكلف، فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسراً ومشقة، فالشارع قدر وقتاً مضبوطاً متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض كيف كانت تلك الدماء/ ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء، والمقصود من هذا إسقاط العسر والمشقة عن المكلف، ثم إن الأحكام الشرعية للحيض هي المنع من الصلاة والصوم واجتناب دخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن، وتصير المرأة به بالغة، والحكم الثابت للحيض بنص القرآن إنما هو حظر الجماع على ما بينا كيفية دلالة الآية عليه.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤١٤
المسألة الخامسة : اختلف الناس في مدة الحيض فقال الشافعي رحمه الله تعالى : أقلها يوم وليلة، وأكثرها خمسة عشر يوماً، وهذا قول علي بن أبي طالب وعطاء بن أبي رباح والأوزاعي وأحمد وإسحق رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة والثوري : أقله ثلاثة أيام ولياليهن فإن نقص عنه فهو دم فاسد، وأكثره عشرة أيام، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء : إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً، ثم تركه وقال مالك لا تقدير لذلك في القلة والكثرة، فإن وجد ساعة فهو حيض، وإن وجد أياماً فكذلك، واحتج أبو بكر الرازي في أحكام القرآن على فساد قول مالك فقال : لو كان المقدار ساقطاً في القليل والكثير لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود من المرأة فكان يلزم أن لا يوجد في الدنيا مستحاضة، لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على هذا المذهب وذلك باطل بإجماع الأمة، ولأنه روي أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنبي صلى الله عليه وسلّم إني أستحاض فلا أطهر، وأيضاً روي أن حمنة استحيضت سبع سنين ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلّم لهما إن جميع ذلك حيض، بل أخبرهما أن منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة، فبطل هذا القول والله أعلم.