قلنا : لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم أن يستشهد باسمه العظيم في / مطالب الدنيا وخسائس مطالب الحفل، فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر وأما معنى التقوى فظاهر أنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله، وأما الإصلاح بين الناس فمتى اعتقدوا في صدق لهجته، وبعده عن الأغراض الفاسدة فيقبلون قوله فيحصل الصلح بتوسطه.
التأويل الثاني : قالوا : العرضة عبارة عن المانع، والدليل على صحة هذه اللغة أنه يقال : أردت أفعل كذا فعرض لي أمر كذا، واعترض أي تحامى ذلك فمنعني منه، واشتقاقها من الشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانعاً للناس من السلوك والمرور ويقال : اعترض فلان على كلام فلان، وجعل كلامه معارضاً لكلام آخر، أي ذكر ما يمنعه من تثبيت كلامه، إذا عرفت أصل الاستقاق فالعرضة فعلة بمعنى المفعول، كالقبضة، والغرفة، فيكون اسماً لما يجعل معرضاً دون الشيء، ومانعاً منه، فثبت أن العرضة عبارة عن المانع، وأما اللام في قوله :﴿لايْمَـانِكُمْ﴾ فهو للتعليل.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٢٤
إذا عرفت هذا فنقول : تقدير الآية : ولا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب أيمانكم من أن تبروا أو في أن تبروا، فأسقط حرف الجر لعدم الحاجة إليه بسبب ظهوره، قالوا : وسبب نزول الآية أن الرجل كان يحلف على ترك الخيرات من صلة الرحم، أو إصلاح ذات البين، أو إحسان إلى أحد أدعيائه ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل : لا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب هذه الأيمان عن فعل البر والتقوى هذا أجود ما ذكره المفسرون وقد طولوا في كلمات أخر، ولكن لا فائدة فيها فتركناها/ ثم قال في آخر الآية :﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي : إن حلفتم يسمع، وإن تركتم الحلف تعظيماً لله وإجلالاً له من أن يستشهد باسمه الكريم في الأعراض العاجلة فهو عليم عالم بما في قلوبكم ونيتكم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٢٤
٤٢٦
في الآية مسألتان :
المسألة الأولى :﴿اللَّغْوَ﴾ الساقط الذي لا يعتد به، سواء كان كلاماً أو غيره، أما ورود هذه اللفظة في الكلام، فيدل عليه الآية والخبر والرواية، أما الآية فقوله تعالى :﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ (القصص : ٥٥) وقوله :﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا﴾ (الواقعة : ٢٥) وقوله :﴿لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ﴾ (فصلت : ٢٦) وقوله :﴿لا تَسْمَعُ فِيهَا لَـاغِيَةً﴾ (الغاشية : ١١) أما قوله :﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان : ٧٢) فيحتمل أن يكون المراد، وإذا مروا بالكلام الذي يكون لغواً، وأن يكون المراد، وإذا مروا بالفعل الذي يكون لغواً.
وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلّم :"من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا".
وأما الرواية فيقال : لغا الطائر يلغو لغواً إذا صوت، ولغو الطائر تصويته، وأما ورود هذا اللفظ في غير الكلام، فهو أنه يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل : لغو، قال جرير :
يعد الناسبون بني تميم
بيوت المجد أربعة كباراً
وتخرج منهم المرئى لغوا
كما ألغيت في الدية الحوارا
وقال العجاج :
ورب أسراب حجيج كظم
عن اللغا ورفث التكلم
قال الفراء : اللغا، مصدر للغيت، و﴿اللَّغْوَ﴾ مصدر للغوت، فهذا ما يتعلق باللغة.
أما المفسرون فقد ذكروا وجوهاً الأول : قال الشافعي رضي الله عنه : إنه قول العرب : لا والله، وبلى والله، مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف، ولو قيل لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك، ولعله قال : لا والله ألف مرة والثاني : وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه : أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن فهذا هو اللغو، وفائدة هذا الإختلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل لا والله وبلى والله ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك ومذهب الشافعي هو قول عائشة، والشعبي، وعكرمة، وقول أبي حنيفة هو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والنخعي والزهري، وسليمان بن يسار، وقتادة، والسدي، ومكحول، حجة الشافعي رضي الله عنه على قوله وجوه الأول : ما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"لغو اليمين قول الرجل في كلامه كلا والله، وبلى والله، ولا والله" وروى أنه صلى الله عليه وسلّم مر بقوم ينتضلون، ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم، فقال : أصبت والله، ثم أخطأ، ثم قال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلّم : حنث الرجل يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلّم :"كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة" وعن عائشة أنها قالت : أيمان اللغو ماكان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب، وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٢٦