وإذا ثبت أن القرء هو الوقت دخل فيه الحيض والطهر، لأن لكل واحد منهما وقتاً معيناً، واعلم أنه تعالى أمر المطلقة أن تعتد بثلاثة قروء، والظاهر يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى ثلاثة أقراء إن تخرج عن عهدة التكليف، إلا أن العلماء أجمعوا على أنه لا يكفي ذلك، بل عليها أن تعتد بثلاثة أقراء من أحد الجنسين، واختلفوا فيه فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها الأطهار، روى ذلك عن ابن عمر، وزيد، وعائشة، والفقهاء السبعة، ومالك، وربيعة، وأحمد رضي الله عنهم في رواية، وقال علي وعمر وابن مسعود هي الحيض، وهو قول أبي حنيفة، والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإسحاق رضي الله عنهم، وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر، وعندهم أطول، حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءاً وإن حاضت عقيبه في الحال، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر، ومن الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها، ثم قال إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء، أو يمضي عليها وقت صلاة، حجة الشافعي من وجوه :
الحجة الأولى : قوله تعالى :﴿النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ (الطلاق : ١) ومعناه في وقت عدتهن، لكن الطلاق في زمان الحيض منهي عنه فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الحيض، أجاب صاحب "الكشاف" عنه فقال بمعنى مستقبلات لعدتهن، كما يقول لثلاث بقين من الشهر، يريد مستقبلاً لثلاث، وأقول هذا الكلام يقوى استدلال الشافعي رضي الله عنه لأن قول القائل لثلاث بقين من الشهر معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه، فكذا ههنا قوله :﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ معناه طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه، ولما كان الأمر حاصلاً بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن / يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة، وذلك هو المطلوب.
الحجة الثانية : ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : هل تدرون الأقراء ؟
الأقراء الأطهار، ثم قال الشافعي رضي الله عنه : والنساء بهذا أعلم، لأن هذا إنما يبتلي به النساء.
الحجة الثالثة : عبارة عن الجمع، يقال : ما قرأت الناقة نسلاً قط، أي ما جمعت في رحمها ولداً قط ومنه قول عمرو بن كلثوم :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٣٣
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وقال الأخفش يقال : ما قرأت حيضة، أي ما ضمت رحمها على حيضة، وسمي الحوض مقرأة لأنه يجتمع فيه الماء، واقرأت النجوم إذا اجتمعت للغروب، وسمي القرآن قرآناً لاجتماع حروفه وكلماته ولاجتماع العلوم الكثيرة فيه/ وقرأ القارىء أي جمع الحروف بعضها إلى بعض.
إذا ثبت هذا فنقول : وقت اجتماع الدم إنما هو زمان الطهر لأن الدم يجتمع في ذلك الزمان في البدن.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم، لأن الدم يجتمع في هذا الزمان في الرحم.
قلنا : الدماء لا تجتمع في الرحم ألبتة بل تنفصل قطرة قطرة أما وقت الطهر فالكل مجتمع في البدن فكان معنى الاجتماع في وقت الطهر أتم، وتمام التقرير فيه أن اسم القرء لما دل على الاجتماع فأكثر أحوال الرحم اجتماعاً واشتمالاً في الدم آخر الطهر، إذ لو تمتلىء بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج، فمن أولى الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره، والآخر هو حال كمال الاجتماع فكان آخر الطهر هو القرء في الحقيقة وهذا كلام بين.
الحجة الثالثة : أن الأصل أن لا يكون لأحد على أحد من العقلاء المكلفين حق الحبس والمنع من التصرفات تركنا العمل به عند قيام الدليل عليه، وهو أقل ما يسمى بالإقراء الثلاثة وهي الأطهار، لأن الاعتداد بالأطهار أقل زماناً من الاعتداد بالحيض، فلما كان كذلك أثبتنا الأقل ضرورة العمل بهذه الآية وطرحنا الأكثر وفاء بالدلائل الدالة على أن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره قدرة الحبس والمنع.