الحجة الأولى : أنه تعالى قال :﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه ﴾ ثم ذكر الطلاق فقال :﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه مِنا بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه ﴾ (البقرة : ٢٣٠) فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً، وهذا الاستدلال نقله الخطابي في كتاب معالم السنن عن ابن عباس.
الحجة الثانية : وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم أذن لثابت بن قيس بن شماس في مخالعة امرأته، مع أن الطلاق في زمان الحيض أو في طهر حصل الجماع فيه حرام، فلو كان الخلع طلاقاً لكان يجب على النبي صلى الله عليه وسلّم أن يستكشف الحال في ذلك، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً دل على أن الخلع ليس بطلاق.
الحجة الثالثة : روى أبو داود في "سننه" عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي صلى الله عليه وسلّم عدتها حيضة، قال الخطابي : وهذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق، لأن الله تعالى قال :﴿وَالْمُطَلَّقَـاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـاثَةَ قُرُواءٍ ﴾ (البقرة : ٢٢٨) فلو كانت هذه مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد.
أما قوله تعالى :﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ فالمعنى أن ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع ﴿فَلا تَعْتَدُوهَا ﴾ أي فلا تتجاوزوا عنها، ثم بعد هذا النهي المؤكد أتبعه بالوعيد، فقال :﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ وفيه وجوه أحدها : أنه تعالى ذكره في سائر الآيات ﴿أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ﴾ (هود : ١٨) فذكر الظلم ههنا تنبيهاً على حصول اللعن وثانيها : أن الظالم اسم ذم وتحقير، فوقوع هذا الاسم يكون جارياً مجرى الوعيد وثالثها : أنه أطلق لفظ الظلم تنبيهاً على أنه ظلم من الإنسان على نفسه/ حيث أقدم على المعصية، وظلم أيضاً للغير بتقدير أن لا تتم المرأة عدتها، أو كتمت شيئاً مما خلق في رحمها، أو الرجل ترك الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئاً لا بسبب نشوز من جهة المرأة، ففي كل هذه المواضع يكون ظالماً للغير فلو أطلق لفظ الظالم دل على كونه ظالماً لنفسه، وظالماً لغيره، وفيه أعظم التهديدات.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤١
٤٤٨
اعلم أن هذا هو الحكم الخامس من أحكام الطلاق، وهو بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الذين قالوا : إن قوله ﴿أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ ﴾ (البقرة : ٢٢٩) إشارة إلى الطلقة الثالثة قالوا إن قوله :﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ تفسير لقوله :﴿تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ ﴾ وهذا قول مجاهد، إلا أنا بينا أن الأولى أن لا يكون المراد من قوله :﴿تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ ﴾ الطلقة الثالثة، وذلك لأن للزوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية أحوالاً ثلاثة أحدها : أن يراجعها، وهو المراد بقوله :﴿فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ﴾ (البقرة : ٢٢٩) والثاني : أن لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة، وهو المراد بقوله :﴿أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ ﴾ والثالث : أن يطلقها طلقة ثالثة، وهو المراد بقوله :﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ فإذا كانت الأقسام ثلاثة، والله تعالى ذكر ألفاظاً ثلاثة وجب تنزيل كل واحد من الألفاظ الثلاثة على معنى من المعاني الثلاثة، فأما إن جعلنا قوله :﴿أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍ ﴾ عبارة عن الطلقة الثالثة كنا قد صرفنا لفظين إلى معنى واحد على سبيل التكرار، وأهملنا القسم الثالث، ومعلوم أن الأول أولى.
واعلم أن وقوع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين كالشيء الأجنبي، ونظم الآية ﴿الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِا فَإِمْسَاكُا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُا بِإِحْسَـانٍا وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه ا تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ * فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه مِنا بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا﴾.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٤٨
فإن قيل : فإذا كان النظم الصحيح هو هذا فما السبب في إيقاع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين ؟
قلنا : السبب أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة، أما بعدها فلا يبقى شيء من ذلك : فلهذا السبب ذكر الله حكم الرجعة، ثم أتبعه بحكم الخلع، ثم ذكر بعد الكل حكم الطلقة الثالثة لأنها كالخاتمة لجميع الأحكام المعتبرة في هذا الباب والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon