الحجة الثانية لهم : ما ذكره السدي، قال : المراد بالوالدات المطلقات، لأن الله تعالى قال بعد هذه الآية :﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ ولو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا لأجل الرضاع، واعلم أنه يمكن الجواب عن الحجة الأولى أن هذه الآية مشتملة على حكم مستقل بنفسه، فلم يجب تعلقها بما قبلها، وعن الحجة الثانية لا يبعد أن تستحق / المرأة قدراً من المال لمكان الزوجية وقدراً آخر لمكان الرضاع فإنه لا منافاة بين الأمرين.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٨
القول الثالث : قال الواحدي في "البسيط" : الأولى أن يحمل على الزوجات في حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة.
فإن قيل : إذا كانت الزوجية باقية فهي مستحقة النفقة والكسوة بسبب النكاح سواء أرضعت الولد أو لم ترضع فما وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع.
قلنا : النفقة والكسوة يجبان في مقابلة التمكين، فإذا أشغلت بالحضانة والإرضاع لم تتفرغ لخدمة الزوج فربما توهم متوهم أن نفقتها وكسوتها تسقط بالخلل الواقع في خدمة الزوج فقطع الله ذلك الوهم بإجاب الرزق والكسوة، وإن اشتغلت المرأة بالإرضاع، هذا كله كلام الواحدي رحمه الله.
أما قوله تعالى :﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذا الكلام وإن كان في اللفظ خبراً إلا أنه في المعنى أمر وإنما جاز ذلك لوجهين الأول : تقدير الآية : والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه، إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه والثاني : أن يكون معنى يرضعن : ليرضعن، إلا أنه حذف ذلك للتصرف في الكلام مع زوال الإيهام.
المسألة الثانية : هذا الأمر ليس أمر إيجاب، ويدل عليه وجهان الأول : قوله تعالى :﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن﴾ (الطلاق : ٦) ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة والثاني : أنه تعالى قال بعد ذلك :﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَه ا أُخْرَى ﴾ (الطلاق : ٦) وهذا نص صريح، ومنهم من تمسك في نفي الوجوب عليها بقوله تعالى :﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ (البقرة : ٢٣٣) والوالدة قد تكون مطلقة فلم يكن وجوب رزقها على الوالد إلا بسبب الإرضاع، فلو كان الإرضاع واجباً عليها لما وجب ذلك، وفيه البحث الذي قدمناه، إذا ثبت أن الإرضاع غير واجب على الأم فهذا الأمر محمول على الندب من حيث أن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من سائر الألبان، ومن حيث إن شفقة الأم عليه أتم من شفقة غيرها هذا إذا لم يبلغ الحال في الولد إلى حد الاضطرار بأن لا يوجد غير الأم، أو لا يرضع الطفل إلا منها، فواجب عليها عند ذلك أن ترضعه كما يجب على كل أحد مواساة المضطر في الطعام.
أما قوله تعالى :﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أصل الحول من حال الشيء يحول إذا انقلب فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني، وإنما ذكر الكمال لرفع التوهم من أنه على مثل قولهم أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين، وإنما أقام حولاً وبعض الآخر، ويقولون : اليوم يومان مذ لم أره، وإنما يعنون / يوماً وبعض اليوم الآخر.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٥٨
المسألة الثانية : اعلم أنه ليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب ويدل عليه وجهان الأول : أنه تعالى قال بعد ذلك :﴿لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ فلما علق هذا الإتمام بإرادتنا ثبت أن هذا الإتمام غير واجب الثاني : أنه تعالى قال :﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ فثبت أنه ليس المقصود من ذكر هذا التحديد إيجاب هذا المقدار، بل فيه وجوه الأول : وهو الأصح أن المقصود منه قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع، فقدر الله ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند وقوع التنازع بينهما، فإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم لم يكن له ذلك، وكذلك لو كان على عكس هذا فأما إذا اجتمعا على أن يفطما الولد قبل تمام الحولين فلهما ذلك.
الوجه الثاني : في المقصود من هذا التحديد هو أن للرضاع حكماً خاصاً في الشريعة، وهو قوله صلى الله عليه وسلّم :"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" والمقصود من ذكر هذا التحديد بيان أن الارتضاع ما لم يقع في هذا الزمان، لا يفيد هذا الحكم، هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : مدة الرضاع ثلاثون شهراً.
حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه :


الصفحة التالية
Icon