أما قوله تعالى :﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي بالألف على المفاعلة، وكذلك في الأحزاب والباقون ﴿لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ بغير ألف، حجة حمزة والكسائي أن بدن كل واحد يمس بدن صاحبه ويتماسان جميعاً وأيضاً يدل على ذلك قوله تعالى :﴿مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ﴾ (المجادلة : ٣) وهو إجماع وحجة الباقين إجماعهم على قوله :﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ ﴾ (آل عمران : ٤٧) ولأن أكثر الألفاظ في هذا المعنى جاء على المعنى بفعل دون فاعل كقوله :﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ (الرحمن : ٥٦) وكقوله :﴿فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ (النساء : ٢٥) وأيضاً المراد من هذا المس : الغشيان، وذلك فعل الرجل، ويدل في الآية الثانية على أن المراد من هذا المس الغشيان، وأما ما جاء في الظهار من قوله تعالى :﴿مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ﴾ فالمراد به المماسة التي هي غير الجماع وهي حرام في الظهار، وبعض من قرأ : قال : إنه بمعنى ﴿لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ لأن فاعل قد يراد به فعل، كقوله : طارقت النعل، وعاقبت اللص، وهو كثير.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧٣
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح عن المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك فإنه لا جناح عليه أيضاً بعد المسيس.
وجوابه من وجوه الأول : أن الآية دالة على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً، وهذا الإطلاق غير ثابت بعد المسيس، فإنه لا يحل الطلاق بعد المسيس في زمان الحيض، ولا في الطهر الذي جامعها فيه، فلما كان المذكور في الآية حل الطلاق على الإطلاق، وحل الطلاق على الإطلاق لا يثبت إلا بشرط عدم المسيس، صح ظاهر اللفظ.
الوجه الثاني : في الجواب قال بعضهم : إن ﴿مَّآ﴾ في قوله :﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ بمعنى ﴿الَّذِى﴾ والتقدير : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن، إلا أن ﴿مَّآ﴾ اسم جامد لا ينصرف، / ولا يبين فيه الإعراب ولا العدد، وعلى هذا التقدير لا يكون لفظ ﴿مَّآ﴾ شرطاً، فزال السؤال.
الوجه الثالث : في الجواب ما يدور حوله القفال رحمه الله، وحاصله يرجع إلى ما أقوله، وهو أن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر، فتقدير الآية : لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، بمعنى : لا يجب المهر إلا بأحد هذين الأمرين، فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر، وهذا كلام ظاهر إلا أنا نحتاج إلى بيان أن قوله :﴿لا جُنَاحَ﴾ معناه لا مهر، فنقول : إطلاق لفظ الجناح على المهر محتمل، والدليل دل عليه فوجب المصير إليه، وأما بيان الاحتمال فهو أن أصل الجناح في اللغة هو الثقل، يقال : أجنحت السفينة إذا مالت لثقلها والذنب يسمى جناحاً لما فيه من الثقل، قال تعالى :﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ (العنكبوت : ١٣) إذا ثبت أن الجناح هو الثقل، ولزوم أداء المال ثقل فكان جناحاً، فثبت أن اللفظ محتمل له، وإنما قلنا : إن الدليل دل على أنه هو المراد لوجهين الأول : أنه تعالى قال :﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ نفى الجناح محدوداً إلى غاية وهي إما المسيس أو الفرض، والتقدير : فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ثم إن الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر/ فوجب القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر الثاني : أن تطليق النساء قبل المسيس على قسمين أحدهما : الذي يكون قبل المسيس وقبل تقدير المهر، وهو المذكور في هذه الآية والثاني : الذي يكون قبل المسيس وبعد تقدير المهر وهو المذكور في الآية التي بعد هذه الآية وهي قوله :﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ (البقرة : ٢٣٧) ثم إنه في هذا القسم أوجب نصف المفروض وهذا القسم كالمقابل لذلك القسم فيلزم أن يكون الجناح المنفي هناك هو المثبت ههنا، فلما كان المثبت ههنا هو لزوم المهر وجب أن يقال : الجناح المنفي هناك هو لزوم المهر والله أعلم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧٣
واعلم أنا قد ذكرنا في أول تفسير هذه الآية أن أقسام المطلقات أربعة، وهذه الآية تكون مشتملة على بيان حكم ثلاثة أقسام منها، لأنه لما صار تقدير الآية : لا مهر إلا عند المسيس أو عند التقدير، عرف منه أن التي لا تكون ممسوسة ولا مفروضاً لها لا يجب لها المهر، وعرف أن التي تكون ممسوسة ولا تكون مفروضاً لها والتي تكون مفروضاً لها ولا تكون ممسوسة يجب لكل واحدة منهما المهر، فتكون هذه الآية مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الثلاثة.


الصفحة التالية
Icon