بيان المقدمة الأولى : قوله تعالى :﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ فقوله :﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ليس كلاماً تاماً بل لا بد من إضمار آخر ليتم الكلام، فأما أن يضمر ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ساقط، أو يضمر ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ ثابت والأول هو المقصود، والثاني مرجوح لوجوه أحدها : أن المعلق على الشيء بكلمة إن عدم ذلك الشيء ظاهراً، فلو حملناه على الوجوب تركنا العمل بقضية التعليق، لأنه غير منفي قبله، أما لو حملناه على السقوط، عملنا بقضية التعليق، لأنه منفي قبله وثانيها : أن قوله تعالى :﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ يقتضي وجوب كل المهر عليه، لأنه لما التزم لزمه الكل لقوله تعالى :﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ فلم تكن الحاجة إلى بيان ثبوت النصف قائمة لأن المقتضى لوجوب الكل مقتض أيضاً لوجوب النصف إنما المحتاج إليه بيان سقوط النصف، لأن عند قيام المقتضى لوجوب الكل كان الظاهر هو وجوب الكل، فكان سقوط البعض في هذا المقام هو المحتاج إلى البيان، فكان حمل الآية على بيان السقوط أولى من حملها على بيان الوجوب وثالثها : أن الآية الدالة على وجوب إيتاء كل المهر قد تقدمت كقوله :﴿وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ (البقرة : ١٢٩) فحمل الآية على سقوط النصف أولى من حملها على وجوب النصف ورابعها : وهو أن المذكور في الآية هو الطلاق قبل المسيس، وكون الطلاق واقعاً قبل المسيس يناسب سقوط نصف المهر، ولا يناسب وجوب شيء، فلما كان المذكور في الآية ما يناسب السقوط، لا ما يناسب الوجوب كان إضمار السقوط أولى، وإنما استقصينا في هذه الوجوه لأن منهم من قال : إن معنى الآية : فنصف ما فرضتم واجب، وتخصيص النصف بالوجوب لا يدل على سقوط النصف الآخر، إلا من حيث دليل الخطاب، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجة، فكان غرضنا من هذا الاستقصاء دفع هذا السؤال.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧٨
بيان المقدمة الثانية : وهي أن ههنا وجد الطلاق قبل المسيس، هو أن المراد بالمسيس إما حقيقة المس باليد أو جعل كناية عن الوقاع، وأيهما كان فقد وجد الطلاق قبله، حجة أبي حنيفة قوله تعالى :﴿وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاـاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـاًا ﴾ (النساء : ٢٠) إلى قوله :﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ (النساء : ٢١) وجه التمسك به من وجهين الأول : هو أنه تعالى نهى عن أخذ المهر، ولم يفصل بين الطلاق وعدم الطلاق إلا أن توافقنا على أنه خص الطلاق قبل الخلوة، ومن ادعى التخصيص ههنا فعليه البيان والثاني : أن الله تعالى نهى عن أخذ المهر وعلل بعلة الإفضاء، وهي الخلوة، والإفضاء مشتق من الفضاء، وهو المكان الخالي، فعلمنا أن الخلوة تقرر المهر.
وجوابنا عن ذلك أن الآية التي تمسكوا بها عامة، والآية التي تمسكنا بها خاصة والخاص مقدم على العام والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله :﴿وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ حال من مفعول ﴿طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ والتقدير : طلقتموهن حال ما فرضتم لهن فريضة.
أما قوله تعالى :﴿إِلا أَن يَعْفُونَ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : إنما لم تسقط النون من ﴿يَعْفُونَ﴾ وإن دخلت عليه ﴿ءَانٍ﴾ الناصبة للأفعال لأن ﴿يَعْفُونَ﴾ فعل النساء، فاستوى فيه الرفع والنصب والجزم، والنون في ﴿يَعْفُونَ﴾ إذا كان الفعل مسنداً إلى النساء ضمير جمع المؤنث، وإذا كان الفعل مسنداً إلى الرجال فالنون علامة الرفع فلذلك لم تسقط النون التي هي ضمير جمع المؤنث، كما لم تسقط الواو التي هي ضمير جمع المذكر، والساقط في ﴿يَعْفُونَ﴾ إذا كان للرجال الواو التي هي لام الفعل في ﴿يَعْفُونَ﴾ لا الواو التي هي ضمير الجمع، والله أعلم.
المسألة الثانية : المعنى : إلا أن يعفون المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته، ولا استمتع بي. فكيف آخذ منه شيئاً.
أما قوله تعالى :﴿أَوْ يَعْفُوَا الَّذِى بِيَدِه عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ ففيه مسألتان :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٧٨
المسألة الأولى : في الآية قولان الأول : أنه الزوج، وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام، وسعيد بن المسيب، وكثير من الصحابة والتابعين وهو قول أبي حنيفة.
والقول الثاني : أنه الولي، وهو قول الحسن، ومجاهد وعلقمة، وهو قول أصحاب الشافعي.


الصفحة التالية
Icon