القول السابع : أنها صلاة العشاء، قالوا لأنها متوسطة بين صلاتين لا يقصران/ المغرب والصبح، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة" فهذا مجموع دلائل الناس وأقوالهم في هذه المسألة، وقد تركت ترجيح بعضها فإنه يستدعي تطويلاً عظيماً، والله أعلم.
المسألة الرابعة : احتج الشافعي بهذه الآية على أن الوتر ليس بواجب، قال : الوتر لو كان واجباً لكانت الصلوات الواجبة ستة، ولو كان كذلك لما حصل لها وسطى، والآية دلت على حصول الوسطى لها.
فإن قيل : الاستدلال إنما يتم إذا كان المراد هو الوسطى في العدد وهذا ممنوع بل المراد من الوسطى الفضيلة قال تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة : ١٤٣) أي عدولاً وقال تعالى :﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ (القلم : ٢٨) أي أعدلهم، وقد أحكمنا هذا الاشتقاق في تفسير قوله تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات وهو متوسط بين الإثنين وبين الأربع، وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في الصفة وهي صلاة الصبح فإنها تقع في وقت ليس بغاية في الظلمة ولا غاية في الضوء.
الجواب : أن الخلق الفاضل إنما يسمى وسطاً لا من حيث إنه خلق فاضل، بل من حيث إنه يكون متوسطاً بين رذيلتين هما طرفا الإفراط والتفريط، مثل الشجاعة فإنها خلق فاضل وهي متوسطة بين الجبن والتهور فيرجع حاصل الأمر إلى أن لفظ الوسط حقيقة فيما يكون وسطاً بحسب العدد ومجاز في الخلق الحسن والفعل الحسن من حيث إن من شأنه أن يكون متوسطاً بين الطرفين اللذين ذكرناهما وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٨٢
أما قوله : نحمله على ما يكون وسطاً في الزمان وهو الظهر.
فجوابه : أن الظهر ليست بوسط في الحقيقة، لأنها تؤدى بعد الزوال، وهنا قد زال الوسط.
وأما قوله : نحمله على الصبح لكون وقت وجوبه وسطاً بين وقت الظلمة وبين وقت النور، أو على المغرب لكون عددها متوسطاً بين الإثنين والأربعة.
فجوابه : أن هذا محتمل وما ذكرناه أيضاً محتمل، فوجب حمل اللفظ على الكل فهذا هو وجه الاستدلال في هذه المسألة بهذه الآية بحسب الإمكان والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ﴾ ففيه وجوه أحدها : وهو قول ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر، واحتج عليه بوجهين الأول : أن قوله :﴿حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ أمر بما في الصلاة من الفعل، فوجب أن يحمل القنوت على كل ما في الصلاة من الذكر، فمعنى الآية : وقوموا لله ذاكرين داعين منقطعين إليه والثاني : أن المفهوم من القنوت هو الذكر والدعاء، بدليل قوله تعالى :﴿أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآاـاِمًا﴾ (الزمر : ٩) وهو المعنى بالقنوت في صلاة الصبح والوتر، وهو المفهوم من قولهم : قنت على فلان لأن المراد به الدعاء عليه.
والقول الثاني :﴿قَـانِتِينَ﴾ أي مطيعين، وهو قول ابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل، الدليل عليه وجهان الأول : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"كل قنوت في القرآن فهو الطاعة" الثاني : قوله تعالى في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلّم :﴿وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِه ﴾ (النساء : ٣٤) وقال في كل النساء :﴿فَالصَّـالِحَـاتُ قَـانِتَـاتٌ﴾ (النساء : ٣٤) / فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها، والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها، وهو زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما يجزىء وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد/ ولو كان كما قال لوجب أن لا يصلي رأساً، لأنه يقال : كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا، فكذلك لا يحتاج إلى القليل وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلّم والرسل والسلف الصالح فأطالوا وأظهروا الخشوع والاستكانة وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال.
القول الثالث :﴿قَـانِتِينَ﴾ ساكتين، وهو قول ابن مسعود وزيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه، ويسألهم : كم صليتم ؟
كفعل أهل الكتاب، فنزل الله تعالى :﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ﴾ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٨٢
القول الرابع : وهو قول مجاهد : القنوت عبارة عن الخشوع، وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات من هيبة الله تعالى وكان أحدهم إذا قام إلى الصلاة يهاب ربه فلا يلتفت ولا يقلب الحصى، ولا يعبث بشيء من جسده، ولا يحدث نفسه بشيء من الدنيا حتى ينصرف.


الصفحة التالية
Icon