المسألة الرابعة : القائلون بأن هذه الوصية كانت واجبة أوردوا على أنفسهم سؤالاً فقالوا : الله تعالى ذكر الوفاة، ثم أمر بالوصية، فكيف يوصي المتوفي ؟
وأجابوا عنه بأن المعنى : والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا فالوفاة عبارة عن الإشراف عليها وجواب آخر وهو أن هذه الوصية يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى بمعنى أمره وتكليفه، كأنه قيل : وصية من الله لأزواجهم، كقوله :﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَـادِكُمْ ﴾ (النساء : ١١) وإنما يحسن هذا المعنى على قراءة من قرأ بالرفع.
أما قوله تعالى :﴿فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ فالمعنى : لا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين، ومن الإقدام على النكاح، وفي رفع الجناح وجهان أحدهما : لا جناح في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول والثاني : لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج، لأن مقامها حولاً في بيت زوجها ليس بواجب عليها.
الحكم الثامن عشر
في المطلقات
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩١
٤٩٤
يروى أن هذه الآية إنما نزلت، لأن الله تعالى لما أنزل قوله تعالى :﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ إلى قوله :﴿حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة : ٢٣٦) قال رجل من المسلمين : إن أردت فعلت، وإن لم أرد لم أفعل، فقال تعالى :﴿وَلِلْمُطَلَّقَـاتِ مَتَـاعُا بِالْمَعْرُوفِا حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ يعني على كل من كان متقياً عن الكفر، واعلم أن المراد من المتاع ههنا فيه قولان أحدهما : أنه هو المتعة، فظاهر هذه الآية يقتضي وجوب هذه المتعة لكل المطلقات، فمن الناس من تمسك بظاهر هذه الآية وأوجب المتعة لجميع المطلقات، وهو قول سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري قال الشافعي رحمه الله تعالى : لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها مهر ولم يوجد في حقها المسيس، وهذه المسألة قد ذكرناها في تفسير قوله تعالى :﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُه وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُه ﴾ (البقرة : ٢٣٦).
فإن قيل : لم أعيد ههنا ذكر المتعة مع أن ذكرها قد تقدم في قوله :﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُه وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُه ﴾.
قلنا : هناك ذكر حكماً خاصاً، وههنا ذكر حكماً عاماً.
والقول الثاني : أن المراد بهذه المتعة النفقة، والنفقة قد تسمى متاعاً وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى، وههنا آخر الآيات الدالة على الأحكام والله أعلم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٤
٤٩٥
اعلم أن عادته تعالى في القرآن أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص ليفيد الاعتبار السامع، ويحمله ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد، ومزيد الخضوع والانقياد فقال :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِمْ﴾ أما قوله :﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الرؤية قد تجىء بمعنى رؤية البصيرة والقلب، وذلك راجع إلى العلم، كقوله :﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ (البقرة : ١٢٨) معناه : علمنا، وقال :﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاـاكَ اللَّه ﴾ (النساء : ١٠٥) أي علمك، ثم إن هذا اللفظ قد يستعمل فيما تقدم للمخاطب العلم به، وفيما لا يكون كذلك فقد يقول الرجل لغيره يريد تعريفه ابتداء : ألم تر إلى ما جرى على فلان، فيكون هذا ابتداء تعريف، فعلى هذا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية، ويجوز أن نقول : كان العلم بها سابقاً على نزول هذه الآية، ثم إن الله تعالى أنزل هذه الآية على وفق ذلك العلم.
المسألة الثانية : هذا الكلام ظاهره خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلّم إلا أنه لا يبعد أن يكون المراد هو وأمته، إلا أنه وقع الابتداء بالخطاب معه، كقوله تعالى :﴿الْحَكِيمُ * يَـا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ (الطلاق : ١).
المسألة الثالثة : دخول لفظة ﴿إِلَى ﴾ في قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ﴾ يحتمل أن يكون لأجل أن ﴿إِلَى ﴾ عندهم حرف للانتهاء كقولك : من فلان إلى فلان، فمن علم بتعليم معلم، فكأن ذلك المعلم أوصل ذلك المتعلم إلى ذلك المعلوم وأنهاه إليه، فحسن من هذا الوجه دخول حرف ﴿إِلَى ﴾ فيه، ونظيره قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ (الفرقان : ٤٥).
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤٩٥


الصفحة التالية
Icon