والجواب من وجهين : الأول : وهو قول المبرد : أن ﴿مَّآ﴾ في هذه الآية جحد لا استفهام كأنه قال : ما لنا نترك القتال، وعلى هذا الطريق يزول السؤال.
الوجه الثاني : أن نسلم أن ﴿مَّآ﴾ ههنا بمعنى الاستفهام، ثم على هذا القول وجوه الأول : قال الأخفش : أن ههنا زائدة، والمعنى : ما لنا لا نقاتل وهذا ضعيف، لأن القول بثبوت الزيادة في كلام الله خلاف الأصل الثاني : قال الفراء : الكلام ههنا محمول على المعنى، لأن قولك : مالك لا تقاتل معناه ما يمنعك أن تقاتل ؟
فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال أن فيه قال تعالى :﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ﴾ (ص : ٧٥) وقال :﴿مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّـاجِدِينَ﴾ (الحجر : ٣٢) الثالث : قال الكسائي : معنى ﴿وَمَا لَنَآ أَلا نُقَـاتِلَ﴾ أي شيء لنا في ترك القتال ؟
ثم سقطت كلمة ﴿فِى ﴾ ورجح أبو علي الفارسي، قول / الكسائي على قول الفراء، قال : وذلك لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر، والتقدير : ما يمنعنا من أن نقاتل، إذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين، ثم على قول الكسائي يبقى اللفظ مع هذا الإضمار على ظاهره، وعلى قول الفراء لا يبقى، فكان قول الكسائي لا محالة أولى وأقوى.
أما قوله :﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا ﴾ فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره : فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا.
أما قوله :﴿إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ ﴾ فهم الذين عبروا منهم النهر وسيأتي ذكرهم، وقيل : كان عدد هذا القليل ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر ﴿وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّـالِمِينَ﴾ أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قيل من ربه/ وهذا هو الذي يدل على تعلق هذه الآية بقوله قبل ذلك :﴿وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فكأنه تعالى أكد وجوب ذلك بأن ذكر قصة بني إسرائيل في الجهاد وعقب ذلك بأن من تقدم على مثله فهو ظالم والله أعلم بما يستحقه الظالم وهذا بين في كونه زجراً عن مثل ذلك في المستقبل وفي كونه بعثاً على الجهاد، وأن يستمر كل مسلم على القيام بذلك والله أعلم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٠١
٥٠٣
اعلم أنه لما بين في الآية الأولى أنه أجابهم إلى ما سألوا، ثم إنهم تولوا فبين أن أول ما تولوا إنكارهم إمرة طالوت، وذلك لأنهم طلبوا من نبيهم أن يطلب من الله أن يعين لهم ملكاً فأجابهم بأن الله قد بعث لهم طالوت ملكاً، قال صاحب "الكشاف" : طالوت اسم أعجمي، كجالوت، وداود وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته، وزعموا أنه من الطول لما وصف به من البسطة في الجسم، ووزنه إن كان من الطول فعلوت، وأصله طولوت، إلا أن امتناع صرفه يدفع أن يكون / منه، إلا أن يقال : هو اسم عبراني وافق عربياً كما وافق حطة حنطة، وعلى هذا التقدير يكون أحد سببية العجمة لكونه عبرانياً، ثم إن الله تعالى لما عينه لأن يكون ملكاً لهم أظهروا التولي عن طاعته، والإعراض عن حكمه، وقالوا :﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾ واستبعدوا جداً أن يكون هو ملكاً عليهم، قال المفسرون : وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بني إسرائيل، وهو سبط لاوى بن يعقوب، ومنه موسى وهرون، وسبط المملكة، سبط يهوذا، ومنه داود وسليمان، وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين، بل كان من ولد بنيامين فلهذا السبب أنكروا كونه ملكاً لهم، وزعموا أنهم أحق بالملك منه، ثم أنهم أكدوا هذه الشبهة بشبهة أخرى، وهي قولهم : ولم يؤت سعة من المال، وذلك إشارة إلى أنه فقير، واختلفوا فقال وهب، كان دباغاً، وقال السدي : كان مكارياً، وقال آخرون، كان سقاء.
فإن قيل : ما الفرق بين الواوين في قوله :﴿وَنَحْنُ أَحَقُّ﴾ وفي قوله :﴿وَلَمْ يُؤْتَ﴾.
قلنا : الأولى للحال، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالاً، والمعنى : كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به، ثم إنه تعالى أجاب عن شبههم بوجوه الأول : قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاهُ عَلَيْكُمْ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٠٣
المسألة الأولى : معنى الآية أنه تعالى خصه بالملك والإمرة.
واعلم أن القوم لما كانوا مقرين بنبوة ذلك النبي، كان إخباره عن الله تعالى أنه جعل طالوت ملكاً عليهم حجة قاطعة في ثبوت الملك له لأن تجويز الكذب على الأنبياء عليهم السلام يقتضي رفع الوثوق بقولهم وذلك يقدح في ثبوت نبوتهم ورسالتهم، وإذا ثبت صدق المخبر ثبت أن الله تعالى خصه بالملك، وإذا ثبت ذلك كان ملكاً واجب الطاعة وكانت الاعتراضات ساقطة.