[ وفي أنفسهم ] أي وفي عجائب قدرة الله في خلقهم وتكوينهم قال القرطبي : المراد ما في أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحكمة، حتى سبيل الغائط والبول، فإن الرجل يأكل ويشرب من مكان واحد، ويتميز ذلك من مكانين، ومن بديع صنعة الله وحكمته، في عينيه اللتين هما قطرة ماء، ينظر بهما من الأرض إلى السماء، مسيرة خمسمائة عام، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة، وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه
[ حتى يتبين لهم أنه الحق ] أي حتى يظهر لهم أن القرآن حق، وأن الرسول صادق،
[ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ] ؟ أي أولم يكفهم برهانا على صدقك، أن ربك لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ وأنه مطلع على كل شيء لا تخفى عليه خافية ؟
[ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ] ألا أداة إستفتاح، لتنبيه السامع إلى ما يقال أى ألا فإنتبهوا أيها القوم، إن هؤلاء المشركين في شك من الحساب والبعث والجزاء، ولهذا لا يتفكرون ولا يؤمنون
[ ألا إنه بكل شىء محيط ] أي ألا فإنتبهوا فإنه تعالى قد أحاط علمه، بكل الأشياء جملة وتفصيلا، فهو يجازيهم على كفرهم أبلغ الجزاء، بإدخالهم نار الجحيم !!
البلاغة :
تضمنت السورة الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما يلي :
١ - الطباق بين [ بشيرا.. ونذيرا ] وبين [ طوعا.. وكرها ] وبين [ ما بين أيديهم.. وما خلفهم ] وبين [ الحسنة.. والسيئة ] وبين [ مغفرة.. وعقاب ] وبين [ أعجمي.. وعربي ] وبين [ تحمل.. وتضع ] وبين [ الخير.. والشر ].
٢ - طباق السلب [ لا تسجدوا للشمس.. واسجدوا لله ] وكذلك [ آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون ].
٣ - الإلتفات [ فإن أعرضوا ] بعد قوله [ قل أئنكم لتكفرون ] وهو إلتفات من الخطاب إلى الغيبة، وناسب الإعراض عن مخاطبتهم لكونهم أعرضوا عن الحق، وهو تناسب حسن.
٤ - الإستعارة التمثيلية [ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ] مثل تأثير قدرته تعالى في السموات والأرض، بأمر السلطان لأحد رعيته أو عبيده بأمر من الأمور، وإمتثال الأمر سريعا، فالسموات والأرض منقادة لحكمه، لا تخرج عن طوعه وإرادته.
٥ - الإستعارة التصريحية [ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ] ليس هناك على الحقيقة شىء مما قالوه، وإنما أخرجوا هذا الكلام مخرج الدلالة على إستثقالهم ما يسمعونه من قوارع القرآن، وجوامع البيان، فكأنهم من شدة الكراهية له، قد صمت أسماعهم عن فهمه، وقلوبهم عن علمه.
٦ - الإستعارة التمثيلية اللطيفة [ أولئك ينادون من مكان بعيد ] شبه حالهم في عدم قبول المواعظ، وإعراضهم عن القرآن وما فيه، بحال من ينادى من مكان بعيد، فلا يسمع ولا يفهم ما ينادى به، والجامع عدم الفهم في كل، بطريق الإستعارة التمثيلية.
٨ - الأمر التهديدي [ اعملوا ما شئتم ] خرج الأمر عن صيغته الأصلية إلى معنى الوعيد والتهديد.
٩ - التشبيه المرسل المجمل [ كأنه ولي حميم ] ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه فهو مرسل مجمل.
١٠ - إن اللسان عاجز عن تصوير البلاغة في جمال الإسلوب القرآني، فتأمل الروعة البيانية في قوله تعالى [ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير ] وتصور التناسق الفني في التعبير والأداء، وتأمل لفظ الخشوع والإهتزاز والإنتفاخ للأرض الميتة، يبعثها الله كما يبعث الموتى من القبور، إنه جو بعث وإخراج وإحياء، ويا له من تصوير رائع يأخذ بالألباب.