[ وهو اللطيف الخبير ] أي وألحال أنه اللطيف بالعباد، الذي يعلم دقائق الأمور وغوامضها، الخبير الذي لا يعزب عن علمه شيء، فلا تتحرك ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفس، إلا وعنده خبرها! ! ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته، وآثار فضله وامتنانه على العباد فقال
[ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ] أي الله جل وعلا جعل لكم الأرض لينة سهلة المسالك
[ فامشوا في مناكبها ] أي فاسلكوا أيها الناس في جوانبها وأطرافها، قال ابن كثير : أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها للمكاسب والتجارات
[ وكلوا من رزقه ] أي وانتفعوا بما أنعم به جل وعلا عليكم من أنواع الكسب والرزق، قال الألوسي : كثيرا ما يعبر عن وجوه الانتفاع بالأكل، لأنه الأهم الأعم، وفي الآية دليل على ندب التسبب والكسب، وهو لا ينافي التوكل، فقد مر عمر رضى الله عنه بقوم فقال : من أنتم ؟ فقالوا : المتوكلون، فقال : بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض، وتوكل على ربه عز وجل
[ وإليه النشور ] أي ثم إليه تعالى المرجع بعد الموت والفناء، للحساب والجزاء.. ثم توعد تعالى كفار مكة المكذبين لرسول الله (ص) فقال سبحانه
[ ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ] أي هل أمنتم يا معشر الكفار ربكم العلى الكبير، أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم في مجاهلها، بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها ؟
[ فإذا هي تمور ] أي فإذا بها تضطرب، وتهتز بكم هزا شديدا عنيفا، قال الرازي : والمراد أن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فيذهبون، والأرض فوقهم تمور فتلقيهم إلى أسفل سافلين
[ أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ] أي هل أمنتم الله العلى الكبير، أن يرسل عليكم حجارة من السماء، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل ؟
[ فستعلمون كيف نذير ] أي فستعلمون عند معاينة العذاب، كيف يكون إنذاري وعقابي للمكذبين ! ! وفيه وعيد وتهديد شديد، وأصلها [ نذيري ] و[ نكيري ] حذفت الياء مراعاة لرءوس الآيات
[ ولقد كذب الذين من قبلهم ] أي ولقد كذب كفار الأمم السابقة رسلهم، كقوم نوح، وعاد، وثمود وأمثالهم، وهذا تسلية للرسول (ص) وتهديد لقومه المشركين
[ فكيف كان نكير ] أي فكيف كان إنكاري عليهم بنزول العذاب ؟ ألم يكن في غاية الهول والفظاعة ؟ ثم لما حذرهم ما عسى أن يحل بهم من الخسف وارسال الحاصب، نبههم على الاعتبار بالطير، وما أحكم الله من خلقها، وعن عجز آلهتهم المزعومة عن خلق شىء من ذلك، فقال سبحانه
[ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ] أي أولم ينظروا نظر اعتبار إلى الطيور فوقهم، باسطات أجنحتهن في الجو، عند طيرانها وتحليقها، [ ويقبضن ] أي ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن، وقتا بعد وقت ؟ ولما كان الغالب هو فتح الجناحين، فكأنه هو الثابت عبر عنه بالإسم [ صافات ] وكان القبض متجددا عبر عنه بالفعل [ ويقبضن ] قال في التسهيل : فإن قيل : لم لم يقل " قابضات " على طريقة [ صافات ] ؟ فالجوآب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران، كما أن مد الأطراف هو الأصل في السباحة، فذكره بصيغة اسم الفاعل [ صافات ] لدوامه وكثرته، وأما قبض الجناحين فإنما يفعله الطائر قليلا، للاستراحة والاستعانة، فلذلك ذكره بلفظ الفعل لقلته
[ ما يمسكهن إلا الرحمن ] أي ما يمسكهن في الجو عن السقوط في حال البسط والقبض، إلا الخالق الرحمن الذي وسعت رحمته كل ما في الأكوان، قال الرازي : وذلك أنها مع ثقلها وضخامة أجسامها، لم يكن بقاؤها في جو الهواء، إلا بإمساك الله وحفظه، وإلهامها إلي كيفية البسط والقبض، المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن


الصفحة التالية
Icon