[ إن كيدي متين ] أي إن انتقامي من الكافرين قوي شديد، وفي الحديث (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ثم قرأ [ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ] وإنما سمى إحسانه كيدا، كما سماه استدراجا، لكونه في صورة الكيد، فما وقع لهم من سعة الأرزاق، وطول الأعمار، وعافية الأبدان، إحسان في الظاهر، وبلاء في الباطن، لأن المقصود معاقبتهم وتعذيبهم به
[ أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ] أي أتسألهم يا محمد غرامة مالية على تبليغ الرسالة، فهم معرضون عن الإيمان، بسبب ذلك التكليف الثقيل ببذلهم المال ؟ والغرض توبيخهم في عدم الإيمان، فإن الرسول لا يطلب منهم شيئا من الأجر، قال الخازن : المعنى أتطلب منهم أجرا، فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم عن الإيمان
[ أم عندهم الغيب فهم يكتبون ] أي أم هل عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب، فهم ينقلون منه أنهم خير من أهل الإيمان، فلذلك أصروا على الكفر والطغيان ؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ
[ فاصبر لحكم ربك ] أي فاصبر يا محمد على أذاهم، وأمض لما أمرت به من تبليغ رسالة ربك
[ ولا تكن كصاحب الحوت ] أي ولا تكن في الضجر والعجلة، كيونس بن متى عليه السلام، لما غضب على قومه لأنهم لم يؤمنوا، فتركهم وركب البحر ثم التقمه الحوت، وكان من أمره ما كان
[ إذ نادى وهو مكظوم ] أي حين دعا ربه في بطن الحوت، وهو مملوء غما وغيظا بقوله [ لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ]
[ لولا أن تداركه نعمة من ربه ] اي لولا أن تداركته رحمة الله
[ لنبذ بالعراء وهو مذموم ] أي لطرح في الفضاء الواسع الخالى من الأشجار والجبال، وهو ملام على ما ارتكب، ولكن الله أنعم عليه بالتوفيق للتوبة فلم يبق مذموما
[ فاجتباه ربه فجعله من الصالحين ] أي فاصطفاه ربه واختاره لنفسه فجعله من المقربين، قال ابن عباس : رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه
[ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ] أي ولقد كاد الكفار من شدة عداوتهم لك يا محمد، أن يصرعوك بأعينهم ويهلكوك، من قولهم نظر إلى نظرى كاد يصرعنى، قال ابن كثير : وفي الآية دليل على أن العين وإصابتها وتأثيرها حق، بأمر الله عز وجل، ويؤيده حديث (لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين )
[ لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ] أي حين سمعوك تقرأ القرآن، ويقولون من شدة بغضهم وحسدهم لك : إن محمدا مجنون، قال تعالى ردا عليهم
[ وما هو إلا ذكر للعالمين ] أي وما هذا القرآن المعجز إلا موعظة وتذكير للإنس والجن، فكيف ينسب من نزل عليه إلى الجنون ؟ ! ختم تعالى السورة ببيان عظمة القرآن، كما بدأها ببيان عظمة الرسول، ليتناسق البدء مع الختام، فى أروع بيان وأجمل ختام ! !
البلاغة :
تضمنت السورة الكريمة وجوهأ من الفصاحة والبيان نوجزها فيما يلي :
١ - الجناس الناقص بين لفظي [ مجنون ] و[ ممنون ] لاختلاف الحرف الثانى.
٢ - الوعيد والتهديد [ فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون ] وحذف المفعول للتهويل.
٣ - صيغ المبالغة في [ حلاف، هماز، مشاء، مناع ] وكذلك في [ أثيم، وزنيم ].
٤ - الاستعارة الفائقة [ سنسمه على الخرطوم ] استعار الخرطوم للأنف لأن أصل الخرطوم للفيل، واستعارته لأنف الإنسان تجعله في غاية الإبداع لأن الغرض الاستهانة به والاستخفاف.
٥ - الطباق بين [ المسلمين ] و[ المجرمين ] وبين [ ضل.. والمهتدين ] وهو من المحسنات البديعية.
٦ - جناس الاشتقاق [ فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ].
٧ - التقريع والتوبيخ [ ما لكم كيف تحكمون ؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون ] ؟ والجمل التي بعدها.


الصفحة التالية
Icon