[ ولسوف يعطيك ربك فترضى ] أي سوف يعطيك ربك في الآخرة من الثواب، والكرامة، والشفاعة، وغير ذلك إلى أن ترضى، قال ابن عباس : هي الشفاعة في أمته حتى يرضى، لما روي أن النبي، ذكر أمته فقال : اللهم أمتي أمتى وبكى، فقال الله : يا جبريل إذهب إالى محمد وإسأله ما يبكيك ؟ - وهو أعلم - فأتى جبريل رسول الله (ص) وسأله فأخبره رسول الله(ص) بما قال، فقال الله يا جبريل : إذهب إلى محمد وقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك "، وفي الحديث (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة) الحديث، قال الخازن : والأولى حمل الآية على ظاهرها، ليشمل خيري الدنيا والآخرة معا، فقد أعطاه الله تعالى في الدنيا : النصر، والظفر على الأعداء، وكثرة الأتباع والفتوح، وأعلى دينه، وجعل أمته خير الأمم، وأعطاه في الآخرة الشفاعة العامة، والمقام المحمود، وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة.. ثم لما وعده بهذا الوعد الجليل، ذكره بنعمه عليه في حال صغره، ليشكر ربه، فقال سبحانه
[ ألم يجدك يتيما فآوى ] ؟ أي ألم تكن يا محمد يتيما في صغرك، فآواك الله إلى عمك (أبي طالب ) وضمك إليه ؟ قال ابن كثير : وذلك لأن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، ثم توفيت أمه وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده (عبد المطلب ) إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه " أبو طالب " ثم لم يزل يحوطه وينصره يرفع من قدره، حتى ابتعثه الله على رأس الأربعين، وأبو طالب على عبادة الأوثان مثل قومه، ومع ذلك كان يدفع الأذى عن رسول الله (ص)، وكل هذا من حفظ الله له، وكلاءته وعنايته به
[ ووجدك ضالا فهدى ] أي ووجدك تائها عن معرفة الشريعة والدين فهداك إليها، كقوله تعالى [ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ] قال الإمام الجلال : أي وجدك ضالا عما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها، وقيل : ضل في بعض شعاب مكة وهو صغير، فرده الله إلى جده، قال أبو حيان : لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى، لأن الأنبياء معصومون من ذلك، قال ابن عباس : هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة، وقيل : ضل وهو مع عمه في طريق الشام
[ ووجدك عائلا فأغنى ] أي ووجدك فقيرا محتاجا فأغناك عن الخلق، بما يسر لك من أسباب التجارة.. ولما عدد عليه هذه النعم الثلاث، وصاه بثلاث وصايا مقابلها، فقال سبحانه
[ فأما اليتيم فلا تقهر ] أي فأما اليتيم فلا تحتقره ولا تغلبه على ماله، قال مجاهد : أي لا تحتقره، وقال سفيان : لا تظلمه بتضييع ماله، والمراد : كن لليتيم كالأب الرحيم، فقد كنت يتيما فآواك الله
[ وأما السائل فلا تنهر ] اي وأما السائل المستجدي الذي يسأل عن حاجة وفقر، فلا تزجره إذا سألك، ولا تغلظ له القول، بل أعطه أو رده ردا جميلا، قال قتادة : رد المسكين برفق ولين
[ وأما بنعمة ربك فحدث ] أي حدث الناس بفضل الله وإنعامه عليك، فإن التحدث بالنعمة شكر لها، قال الألوسي : كنت يتيما وضالا وعائلا، فآواك الله، وهداك، وأغناك، فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث، فتعطف على اليتيم، وترحم على السائل، فقد ذقت اليتم والفقر، وأرشد العباد إلى طريق الرشاد، كما هداك ربك.
البلاغة :
تضمنت السورة الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما يلي :
١ - الطباق بين [ الآخرة.. والأولى ] في قوله تعالى :[ وللآخرة خير لك من الأولى ] لأن المراد بالأولى الحياة الدنيا، والمراد بالثانية الدار الآخرة، فتطابقا باللفظ.
٢ - المقابلة اللطيفة [ ألم يجدك يتيما فاوى ووجدك عائلا فأغنى ] قابلها بقوله [ فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ] وهي من لطائف علم البديع.