٣- الالتفات من ضمير المتكلم الى الغيبة، وسياق الكلام يقتضي أن يقول : واشكرونا، ولكنه التفت الى الغيبة لعظم الاهتمام به سبحانه. وفيه تلميح الى الحديث النبوي وهو :« يقول اللّه تعالى :
إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري ». وقد درج علماء البلاغة على تعريف الالتفات بأنه إنما يستعمل في الكلام للتفنن والانتقال من أسلوب الى أسلوب تطرية لنشاط السامع، وهو تعريف جميل، لأن النفس تسأم الكلام الجاري على نسق رتيب. ولكن يرد على هذا التعريف أن التطرية لا تكون إلا بعد حدوث الملل، ولا ملل في تلاوة القرآن، فلا بد أن يكون هناك أمر وراء الانتقال من أسلوب الى أسلوب، بيد أن ذلك لا يمكن تحديده، لأن الفنّ جمال، وسر الجمال في عدم تحديده، لأنه بعيد المنال، وقد أريناك عند الكلام على الفاتحة أسرارا تكمن وراء السطور، وهنا عدل عن التكلم الى الغيبة كما تقدم، وليصرح باسم اللّه، وفي ذلك من حوافز الشكر ما فيه.
نموذج شعري :
و ما دمنا في صدد أسرار الالتفات يحسن بنا أن نورد للقارى ء مثالا شعريا لأبي تمام الطائي ليقيس طلابنا ومتأدبونا على منواله، قال يمدح أبا دلف العجليّ ويصف فيها ركبا يسيرون في المهامة البعيد
إعراب القرآن وبيانه، ج ١، ص : ٢٤٤
ليتخلص الى التنويه بجود الممدوح، ولا يفوتك ما فيها من تشخيص وتجسيد :
و ركب يساقون الركاب زجاجة من السّير لم تقصد لها كفّ قاطب
ففد أكلوا منها الغوارب بالسّرى وصارت لهم أشباحهم كالغوارب
يصرّف مسراها جذيل مشارق إذا آبه هم عذيق مغارب
يرى بالكعاب الزّود طلعة ثائر وبالعرمس الوجناء غرةّ آئب
كأنّ بها ضغنا على كلّ جانب من الأرض أو شوقا الى كلّ جانب
إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد تقطّع ما بيني وبين النوائب