أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول اللّه وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم الى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال له :
- أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال :
- يا أبا ثعلبة، واللّه لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها
إعراب القرآن وبيانه، ج ٥، ص : ٥٢٧
و سمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، فقال له الأخنس :
- وأنا والذي حلفت به كذلك.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته وقال له :
- يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال :
- ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا هنا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ واللّه لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس وتركه.
و هكذا كانت قريش في حيرة من أمرها : ترق قلوبها وتخشع أفئدتها للقرآن لإدراكها أسراره ونفاذها إلى بيانه وسبرها غوره بيد أن نزاع العصبية وشارات الرياسة وأوضاع الجاهلية كل ذلك كان يحجبها عن الإسلام. وسيأتي المزيد من هذا البحث الطريف الجليل...
إعراب القرآن وبيانه، ج ٥، ص : ٥٢٨