و اعلم أنه وقع هنا للبيضاوي ما لا يليق حيث قال :« أتاها جبريل عليه السلام بصورة شاب أمرد سوي الخلق لتستأنس بكلامه ولعله ليهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها » فقوله ليهيج إلخ عبارة غير لائقة بمريم مع التحقيق أن عيسى عليه السلام كان من عالم الأمر أي أمر التكوين الممثل بقوله تعالى :« إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » إذ ليس ثم قول ولا كان ولا يكون وهذا وجه المماثلة بين عيسى وآدم في قوله تعالى :« إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ » أي في التكوين بالأمر من غير واسطة ولا نطفة والنفخ المدلول عليه بقوله تعالى « فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا » من قبيل التمثيل استعير لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها. لا حقيقة النفخ التي هي إجراء الريح الى جوف صالح لإمساكها والامتلاء بها.
و لا يصح الاعتذار للقاضي البيضاوي بأنه نظر الى العادة الإلهية الجارية بخلق المسببات عقب الأسباب لأن السبب لا بد أن يكون تاما ونطفة المرأة وحدها ليست بسبب تام لحصول الولد وإنما تمثل لها بصورة حسنة لتأنس به ولا تنفر منه وتصغي اليه وترهف السمع لسماع البشرى وكان بصورة أمرد لإلف النساء الى الأطفال ومن قرب منهن وعدم الاحتشام منهن. أما رواية الزمخشري فهي :« و قيل قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشي ء يسترها وكان موضعها المسجد فإذا حاضت تحولت الى بيت خالتها فإذا طهرت عادت الى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب وضي ء الوجه، جعد الشعر، سوي الخلق، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا أو حسن الصورة مستوي الخلق وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر منه ولو بدا لها في
إعراب القرآن وبيانه، ج ٦، ص : ٨٠