الالتفات في قوله :« فأنبتنا به حدائق ذات بهجة » بعد قوله « أم من خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء » فقد انتقل في نقل الإخبار من الغيبة الى التكلم عن ذاته في قوله فأنبتنا، والسر فيه تأكيد اختصاص فعل الإنبات بذاته تعالى وللإيذان بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف وما يبدو فيها من تزاويق الألوان وتحاسين الصور، ومتباين الطعوم، ومختلف الروائح المتفاوتة في طيب العرف والأريج كل ذلك لا يقدر عليه إلا قادر خالق وهو اللّه وحده، ولذلك رشح هذا الاختصاص بقوله بعد ذلك « ما كان لكم أن تنبتوا شجرها » وقد أدرك أبو نواس هذه الحقيقة فقال :
تأمل في رياض الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأنظار هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
إعراب القرآن وبيانه، ج ٧، ص : ٢٤١
هل تاب أبو نواس؟ :
هذا ولعلك تعجب من هذه الأبيات تنضح بالإيمان العميق وتصدر عن رجل كأبي نواس لم يظلمه الذين اتهموه ولم تعوزهم الأدلة على اتهامه بالفساد ولكنهم ظلموا الفلسفة فظنوها مدرجة المطلعين عليها الى الزندقة ومذاهبها، ولا زندقة هنا عند أبي نواس ولا مذهب غير المجون وحب الظهور، ولقد كان ابراهيم النظام من أعلم أهل زمانه بما يسمونه علوم الأوائل وكان أبو نواس يحضر عليه فينهاه عن التبذل ويذكره بالوعيد ويقول له : إن من ترقب وعد اللّه فعليه أن يحذر وعيده، فلا يرعوي عن لغوه ومجونه حتى يئس منه فطرده من مجلسه، فنظم فيه قصيدته التي اشتهرت بالابراهيمية ومطلعها مشهور متداول :
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
و فيها يسخر من النظام :
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
لا تخطر العفو إن كنت امرأ حرجا فإن خطرك بالدين إزراء
فأبو نواس لم يكن سوى ماجن مستهتر وقد كان المجون في
إعراب القرآن وبيانه، ج ٧، ص : ٢٤٢


الصفحة التالية
Icon