و الجواب أنه أتى بها وقد أغنى عنها ذكر التولي في الظاهر أما في الحقيقة فهو لم يغن عنها لأن التولي قد يكون بجانب دون جانب كما يكون الاعراض، ولما أخبر سبحانه بذكر توليهم متمما للمعنى في حال الخطاب لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الاشارة، فإن الأصم يفهم من الاشارة ما يفهمه السامع من العبارة، ثم علم سبحانه أن التولي قد يكون بجانب دون جانب كما قدمنا فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتول به فيدرك بعض الاشارة والمراد نفي كل الاشارة فجاءت الفاصلة « مدبرين » ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب بحيث صار ما كان مستقبلا مستدبرا فاحتجب المخاطب عن المخاطب إذ صار من ورائه فخفيت من غيبه الاشارة كما صمّت أذناه عن العبارة فحصلت المبالغة الكلية في عدم الاسماع البتة، وهذا تمثيل مثلت به حال هؤلاء القوم أتى مدمجا في الإيغال وهذا الضرب من الإيغال يسمى ايغال الاحتياط.
و هناك ضرب آخر وهو ايغال التخيير وقد مضى شاهده في سورة المائدة، وقد قدمنا في المائدة ما فيه الكفاية من أمثلة الإيغال، ونورد هنا نماذج منه : يحكى أن أخوة ليلى لما علموا بحب توبة بن الحميّر العقيلي لها نذروا دمه وارتحلوا بها، فقال توبة :
و ان يمنعوا ليلى وحسن حديثها فلن يمنعوا عني البكا والقوافيا
فهلا منعتم إذ منعتم حديثها خيالا يوافيني مع الليل هاديا
إعراب القرآن وبيانه، ج ٧، ص : ٢٥٨
فقد تم المعنى بقوله مع الليل، ولما أتى بالقافية زاد على ذلك.
و لأبي تمام :
إن المنازل ساورتها فرقة أخلت من الآرام كل كناس
من كل ضاحكة الترائب أرهفت إرهاف خوط البانة المياس
فإن المعنى قد تمّ قبل إتيانه بالقافية في البيت الثاني فلما أتى بها زاد عليه، وعلى هذا النحو الجميل يطرد له ذلك فيقول :
فتوح أمير المؤمنين تفتحت لهن أزاهير الربا والخمائل
لقد ألبس الله الإمام فضائلا وتابع فيها باللها والفواضل
فأضحت عطاياه نوازع شردا تسائل في الآفاق عن كل سائل


الصفحة التالية
Icon