و ذلك في وصف كنوز قارون حيث ذكرها جمعا وجمع المفاتح أيضا وذكر النوء والعصبة وأولي القوة قيل كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلا لكل خزانة مفتاح وهذه المبالغة في القرآن من أحسن المبالغات وأغربها عند الحذاق، وهي أن يتقصى جميع ما يدل على الكثرة وتعدد ما يتعلق بما يملكه، استمع الى عمرو بن الأيهم التغلبي كيف أراد أن يصف قومه بالكرم فلم يزل يتقصى ما يمكن أن يقدر عليه من صفات فقال :
و نكرم جارنا ما دام فينا ونتبعه الكرامة حبث كانا
٣- بلاغة التعليل :
و في قوله « إذ قال له قومه لا تفرح إن اللّه لا يحب الفرحين » حسن تعليل جميل بجمله « إن اللّه لا يحب الفرحين » لأن الفرح المحض في الدنيا من حيث أنها دنيا مذموم على الإطلاق، وأي فرح بشي ء زائل وظل حائل. وقد رمق أبو الطيب سماء هذه البلاغة بقوله البديع :
كأن الحزن مشغوف بقلبي فساعة هجرها يجد الوصالا
إعراب القرآن وبيانه، ج ٧، ص : ٣٨١
كذا الدنيا على من كان قبلي صروف لم يد من عليه حالا
أشد الغم عندي في سرور تيقّن عنه صاحبه انتقالا
أ لست تراه كيف جعل الحزن عالقا بفؤاده حتى كأنه يعشقه ولكنه لا يواصلني إلا حين تهجرني فإذا هجرتني واصل الحزن قلبي؟
ثم كيف يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورا ومكانة لعلمه أنه زائل عما حين، والسرور الذي يعرف صاحبه أنه منحسر عنه قريبا هو أشد الغم، وهذا من أبلغ الكلام وأوعظه وأدله على عبقرية شاعر الخلود.
و من جميل ما قيل في هذا المعنى قول هدبة بن خشرم لما قاده معاوية الى الحرة ليقتصّ منه في زياد بن زيد العذري فلقيه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فاستنشده فأنشده :
و لست بمفراح إذا الدهر سرني ولا جازع من صرفه المتقلب
و لا أبتغي شرا إذا الشر تاركي ولكن متى أحمل على الشر أركب


الصفحة التالية
Icon