أدركت قريش أن أساليبها في صد الدعوة الاسلامية عن المصي في طريقها لم تنجح وانه لا بد من اللجوء الى عمل آخر فتشاوروا على عادتهم وانتدبوا عتبة بن ربيعة لكي يذهب الى النبي صلى اللّه عليه وسلم يفاوضه في ترك الدعوة على أن يجمعوا له الأموال حتى يصير أغنى قريش ثم يجعلوا له الرياسات التي يصبح بها أرفعهم مقاما وأعزهم ملكا أو يلتمسوا له الطب حتى يبرأ من هذا الذي يأتيه فينطقه بكلام عجيب، وقد استمع النبي الى عتبة صابرا، فلما انتهى قال له :
أفرغت يا أبا الوليد؟ فقال : نعم، قال له النبي : فاستمع مني، ثم أخذ يتلو عليه قوله تعالى :« حم تنزيل من الرحمن الرحيم » ومضى رسول اللّه يتلو على زائره سورة فصلت حتى انتهى الى قوله تعالى :
« و من آياته الليل والنهار » الآية ولما تلا هذه الآية سجد لربه سجودا طويلا ثم رفع رأسه واستوى في مجلسه وأخذ يكمل السورة حتى إذا فرغ منها نظر الى عتبة فإذ هو ملق يديه خلف ظهره يصغي في هدوء وقد بلغت الآيات منه مبلغا عظيما، قال له النبي :
- قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك.
فلم يعقب عتبة بكلمة وانصرف مهموما يفكر أعمق تفكير في هذا الذي سمع، فما أن رأت قريش صاحبها حتى قال بعضهم لبعض :
- فحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
فلما جلس إليهم قالوا له :
إعراب القرآن وبيانه، ج ٨، ص : ٥٦٧
- ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال :
- ورائي اني سمعت قولا واللّه ما سمعت مثله قط، واللّه ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه فو اللّه ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس.
فقالت قريش :
- سحرك واللّه يا أبا الوليد بلسانه! فأشاح عنهم وقال :
- هذا رأيي فيكم فاصنعوا ما بدا لكم.
٢- موضع السجدة :


الصفحة التالية
Icon