أ- في هذه الآية التفات بديع من الغيبة إلى الخطاب، ولو جرى على سنن الكلام لقال : إلا أن يتقوا. ولكنه عدل عن الغيبة والخطاب لسر كأنه أخذة السحر. فإن موالاة الكفار والأعداء وكل من يتآمر على سلامة الأوطان أمر مستسمج مستقبح. ينكره الطبع ولا يليق أن يواجه به الأصفياء والأولياء، فجاء به غائبا كأنه يرسم لهم خطا بيانيا.
على أن هذا إنما يكون فيما لا ضرر فيه، ولكن التآمر على الكيان، وسلامة أرواح المؤمنين، ولكن التقية لا تجوز مع الأعداء الذين لا هم لهم سوى اغتصاب الأرض وامتصاص الطاقات فهؤلاء لا تسوغ معهم مهادنة، ولا يجوز بحال عقد أي عهد معهم، لأنهم لا يعتمون أن ينقضوه. وقد يستغلونه للانقضاض على من اطمأنوا إليهم وركنوا إلى عهودهم، على حد قولي :
أيّ شأن العهود قطعت ثم أضحت ترهات بعد حين
لا تغرنك قصاصات غدت شركا ينصب للمستضعفين
حذار من العدو- لمحة تاريخية :
و هنا يجدر بنا أن نأتي على ما يرويه التاريخ بصدد نزول هذه
إعراب القرآن وبيانه، ج ١، ص : ٤٩٠
الآية، فقد روي أن جماعة من المسلمين كانوا يوادّون اليهود، فأنزل اللّه هذه الآية، ناهيا عن الاسترسال في ذلك. وقيل : إنّ عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود، فقال يوم الأحزاب : يا رسول اللّه إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو.
فنزلت هذه الآية، إذ لا تتفق موالاة الوليّ وموالاة العدو في وقت واحد قال :
تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النّوك عنك بعازب
٢- المشاكلة في قوله تعالى :« و يحذركم اللّه نفسه ». وإطلاق ذلك عليه سبحانه وتعالى جائز في المشاكلة كقوله أيضا :« تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ». وقيل : الكلام مجاز مرسل معناه :
و يحذركم اللّه عقابه، مثل « و اسأل القرية » مجاز مرسل، فجعلت النفس في موضع الإضمار، وفي ذلك تهديد شديد وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٩]


الصفحة التالية
Icon