كانت عندهم دونهما في المنزلة، أما الوصف بقوله الأخرى فإنها تقوّي هذا المعنى وتزيد في وضاعتها وإلا لقال الأخريات، وقد فطن الزمخشري إلى هذا السر الدقيق فقال « و الأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله تعالى : وقالت أخراهم لأولاهم أي وضعاؤهم لرؤسائهم، وأشرافهم » وهذه النكتة تنساق بنا إلى بحث طريف عن الأخرى فهي تأنيث آخر ولا شك أنه في الأصل من التأخر الوجودي إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجودي إلى الاستعمال حيث يتقدم ذكر مغاير لا غير حتى سلبته دلالته على المعنى الأصلي بخلاف آخر وآخره على وزن فاعل وفاعلة فإنّ إشعارهما بالتأخير الوجودي ثابت لم يغيّر ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا ربيع الآخر على وزن الأفعل وجمادى الأخرى إلى الآخر على وزن فاعل وجمادى الآخرة على وزن فاعلة لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجودي لأن الأفعل والفعلى من هذا الاشتقاق مسلوب الدلالة على غرضهم فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة والتزموا ذلك فيهما.
٢- وفي قوله « تلك إذن قسمة ضيزى » فن عجيب أيضا فقد يتساءل الجاهلون عن السر في استعمال كلمة ضيزى وهي وحشية غير مأنوسة، وسنورد ما أورده ابن الأثير في مثله السائر ثم نردفه بما استخرجناه نحن قال ابن الأثير :« و حضر عندي في بعض الأيام رجل متفلسف فجرى ذكر القرآن الكريم فأخذت في وصفه وذكر ما اشتملت عليه ألفاظه ومعانيه من الفصاحة والبلاغة فقال ذلك الرجل وأيّ فصاحة هناك وهو يقول : تلك إذن قسمة ضيزى؟ فهل في لفظة ضيزى من الحسن ما يوصف فقلت له : اعلم أن لاستعمال الألفاظ أسرارا لم تقف عليها أنت ولا أئمتك مثل ابن سينا والفارابي ولا من أضلّهم مثل أرسطاطاليس وأفلاطون وهذه اللفظة التي أنكرتها في القرآن وهي لفظة
إعراب القرآن وبيانه، ج ٩، ص : ٣٥٦