الثاني : خروج من هذه الغيبة إلى التكلم في قوله : وذلك من نبأ جاءني. وخبرته عن أبي الأسود وتأويل كلامه أنها ثلاث خطأ وتعيين. إن الأول هو الانتقال من الغيبة إلى الحضور أشد خطأ لأن هذا الالتفات هو من عوارض الألفاظ لا من التقادير المعنوية، وإضمار قولوا قبل الحمد لله، وإضمارها أيضاً قبل إياك لا يكون معه التفات، وهو قول مرجوح. وقد عقد أرباب علم البديع باباً للالتفات في كلامهم، ومن أجلهم كلاماً فيه ابن الأثير الجزري، رحمه الله تعالى. وقراءة من قرأ إياك يعبد بالياء مبنياً للمفعول مشكلة، لأن إياك ضمير نصب ولا ناصب له وتوجيهها إن فيها استعارة والتفاتاً، فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضمير المرفوع، فكأنه قال أنت، ثم التفت فأخبر عنه أخبار الغائب لما كان إياك هو الغائب من حيث المعنى فقال يعبد، وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة، وهو ينظر إلى قول الشاعر :
أأنت الهلالي الذي كنت مرةسمعنا به والأرحبي المغلب
وإلى قول أبي كثير الهذلي :
٢٤
يا لهف نفسي كان جلدة خالدوبياض وجهك للتراب الأعفر
وفسرت العبادة في إياك نعبد بأنها التذلل والخضوع، وهو أصل موضوع اللغة أو الطاعة، كقوله تعالى :﴿لا تَعْبُدِ الشَّيْطَـانَ﴾، أو التقرب بالطاعة أو الدعاء أن الذين يستكبرون عن عبادتي، أي عن دعائي، أو التوحيد إلا ليعبدون أي ليوحدون، وكلها متقاربة المعنى. وقرنت الاستعانة بالعبادة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى، وبين ما يطلبه من جهته. وقدمت العبادة على الاستعانة لتقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الإجابة إليها، وأطلق العبادة والاستعانة لتتناول كل معبود به وكل مستعان عليه. وكرر إياك ليكون كل من العبادة والاستعانة سيقاً في جملتين، وكل منهما مقصودة، وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف لو كان إياك نعبد ونستعين، فإنه كان يحتمل أن يكون إخباراً بطلب لعون، أي وليطلب العون من غير أن يعين ممن يطلب..
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤
ونقل عن المنتمين للصلاح تقييدات مختلفة في العبادة والاستعانة، كقول بعضهم : إياك نعبد بالعلم، وإياك نستعين عليه بالمعرفة، وليس في اللفظ ما يدل على ذلك. وفي قوله : نعبد قالوا رد على الجبرية، وفي نستعين رد على القدرية، ومقام العبادة شريف، وقد جاء الأمر به في مواضع، قال تعالى :﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ﴾ ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾، والكناية عن أشرف المخلوقين صلى الله عليه وسلّم. قال تعالى :﴿سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، ﴿وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾، وقال تعالى، حكاية عن عيسى، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، قال :﴿إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ﴾، وقال تعالى وتقدس :﴿لا إله إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِى﴾ فذكر العبادة عقيب التوحيد، لأن التوحيد هو الأصل، والعبادة فرعه. وقالوا في قوله : إياك. رد على الدهرية والمعطلة والمنكرين لوجود الصانع، فإنه خطاب لموجود حاضر.
﴿اهْدِنَا﴾، الهداية : الإرشاد والدلالة والتقدم ومنه الهوادي أو التبيين، ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـاهُمْ﴾ أو الإلهام ﴿أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى ﴾، قال المفسرون : معناه ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها، أو الدعاء، ولكل قوم هاد أي داع والأصل في هدي أن يصل إلى ثاني معمولة باللام ﴿يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ﴾ أو إلى ﴿لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه، ومنه ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾، ونا ضمير المتكلم ومعه غيره أو معظم نفسه. ويكون في موضع رفع ونصب وجر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤


الصفحة التالية
Icon