جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢
وقرأ ابن هرمز : من ربهم بضم الهاء، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر مبنياً على مبتدأ. وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقة أمر الدنيا، ومنها ما متعلقة أمر الآخرة، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة. ولما اختلف الخبران كما ذكرنا، أتى بحرف العطف في المبتدأ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول، لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه. ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿أُوالَئاِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ بعد قوله :﴿أُوالَئاِكَ كَالانْعَامِ﴾ كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين اللذين للمبتدأين في المعنى ؟ ويحتمل هم أن يكون فصلاً أو بدلاً فيكون المفلحون خيراً عن أولئك، أو المبتدأ والمفلحون خبره، والجملة من قوله : هم المفلحون في
٤٣
موضع خبر أولئك، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو.
وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن، لأنه محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه، أو من يتوهم التشريك فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿وَأَنَّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّه هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾، ﴿وَأَنَّه هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ﴾، وقوله :﴿وَأَنَّه خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانثَى ﴾، ﴿وَأَنَّهُا أَهْلَكَ عَادًا الاولَى ﴾، كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا الشركة فيه. وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعي ذلك، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ. وأما قوله تعالى :﴿وَأَنَّه هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ﴾، فدخول هو للإعلام بأن الله هو رب هذا النجم، وإن كان رب كل شيء، لأن هذا النجم عُبِد من دون الله واتُّخذ إلهاً، فأتى به لينبه بأن الله مستبد بكونه رباً لهذا المعبود، ومن دونه لا يشاركه في ذلك أحد. والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو في الذهن، وذلك أنك إذا قلت : زيد المنطلق، فالمخاطب يعرف وجود ذات صدر منها انطلاق، ويعرف زيداً ويجهل نسبة الانطلاق إليه، وأنت تعرف كل ذلك فتقول له : زيد المنطلق، فتفيده معرفة النسبة التي كان يجهلها، ودخلت هو فيه إذا قلت : زيد هو المنطلق، لتأكيد النسبة، وإنما تؤكد النسبة عند توهم أن المخاطب يشك فيها أو ينازع أو يتوهم الشركة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات من قوله تعالى :﴿الم﴾ إلى قوله :﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ أقوالاً : أحدها : أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب دون غيرهم، وهو قول ابن عباس وجماعة. الثاني : نزلت في جميع المؤمنين، قاله مجاهد.
وذكروا في هذه الآية من ضروب الفصاحة أنواعاً : الأول : حسن الافتتاح، وأنه تعالى افتتح بما فيه غموض ودقة لتنبيه السامع على النظر والفكر والاستنباط. الثاني : الإشارة في قوله ذلك أدخل اللام إشارة إلى بعد المنازل. الثالث : معدول الخطاب في قوله تعالى :﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ صيغته خبر ومعناه أمر، وقد مضى الكلام فيه. الرابع : الاختصاص هو في قوله ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾. الخامس : التكرار في قوله تعالى :﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾، وفي قوله :﴿الَّذِينَ﴾، ﴿وَالَّذِينَ﴾ إن كان الموصوف واحداً فهو تكرار اللفظ والمعنى، وإن كان مختلفاً كان من تكرار اللفظ دون المعنى، ومن التكرار ﴿أُوالَا ئِكَ﴾، ﴿وَأُوالَا ئِكَ﴾. السادس : تأكيد المظهر بالمضمر في قوله :﴿وَأُوالَئاِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وفي قوله :﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾. السابع : الحذف، وهو في مواضع أحدها هذه ألم عند من يقدر ذلك، وهو هدى، وينفقون في الطاعة، وما أنزل إليك من القرآن، ومن قبلك، أي قبل إرسالك، أو قبل الإنزال، وبالآخرة، أي بجزاء الآخرة، ويوقنون بالمصير إليها، وعلى هدى، أي أسباب هدى، أو على نور هدى، والمفلحون، أي الباقون في نعيم الآخرة.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢


الصفحة التالية
Icon