ذكرتكم بإرسال الرسول، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. انتهى. فيكون على تقدير مصدر محذوف، وعلى تقدير مضاف، أي اذكروني ذكراً مثل ذكرنا لكم بالإرسال، ثم صار مثل ذكر إرسالنا، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فائته بكرمك، وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل، وهو اختيار الأخفش والزجاج وابن كيسان والأصم، والمعنى : أنكم كنتم على حالة لا تقرؤون كتاباً، ولا تعرفون رسولاً، ومحمد صلى الله عليه وسلّم رجل منكم، أتاكم بأعجب الآيات الدالة على صدقه فقال :"كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلاً، فاذكروني بالشكر، أذكركم برحمتي"، ويؤكده :﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾. ويحتمل على هذا الوجه، بل يظهر، وهو إذا علقت بما بعدها أن، لا تكون الكاف للتشبيه بل للتعليل، وهو معنى مقول فيها إنها ترد له وحمل على ذلك قوله تعالى :﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾، وقول الشاعر :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١٧
لا تشتم الناس كما لا تشتم
أي : واذكروه لهدايته إياكم، ولا تشتم الناس لكونك لا تشتم، أي امتنع من شتم الناس لامتناع الناس من شتمك. وما : في كما، مصدرية، وأبعد من زعم أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، ورسولاً بدل منه، والتقدير : كالذي أرسلناه رسولاً، إذ يبعد تقرير هذا التقدير مع الكلام الذي قبله، ومع الكلام الذي بعده، وفيه وقوع ما على آحاد من يعقل. وكذلك جعل ما كافة، لأنه لا يذهب إلى ذلك إلا حيث لا يمكن أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر، لولايتها الجمل الإسمية، نحو قول الشاعر :
لعمرك إنني وأبا حميدكما النشوان والرجل الحليم
وقول من قال إن : كما أرسلنا، متعلق بما بعده، قد ردّه أبو محمد مكي بن أبي طالب، قال : لأن الأمر إذا كان له جواب، لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه، قال : لو قلت كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك، لم تتعلق الكاف من كما بأكرمني، لأن له جواباً، ولكن تتعلق بشيء آخر، أو بمضمر، وكذلك : فاذكروني أذكركم، هو أمر له جواب، فلا تتعلق كما به، ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين، وهو قولك : إذا أتاك فلان فائته ترضه، فتكون كما وفاذكروني جوابين للأمر، والأول أفصح وأشهر. وتقول : كما أحسنت إليك فأكرمني، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني، إذ لا جواب له. انتهى كلامه. ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها، وهو :﴿وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ﴾، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى : ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم، كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم يتلو. وما ذهب إليه مكي من إبطال أن، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء، لأن الكاف، إما أن تكون للتشبيه، أو للتعليل. فإن كانت للتشبيه، فتكون نعتاً لمصدر محذوف، ويجوز تقدّم ذلك المصدر على الفعل، مثال ذلك : أكرمني إكراماً مثل إكرامي السابق لك أكرمك، فيجوز تقديم هذا المصدر. وإن كانت للتعليل، فيجوز أيضاً تقدم ذلك على الفعل، مثال ذلك : أكرمني لا كرامي لك أكرمك، لا نعلم خلافاً في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته، كما وفاذكروني جوابين للأمر، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب، ولأن ذلك التشبيه فاسد، لأن المصدر لا يشبه الجواب، وكذلك التعليل. أما المصدر التشبيهي، فهو وصف في الفعل المأمور به،
٤٤٤
فليس مترتباً على وقوع مطلق الفعل، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف. وعلى هذا لا يشبه الجواب، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل. وأما التعليل، فكذلك أيضاً ليس مترتباً على وقوع الفعل، بل الفعل مترتب على وجود العلة، فهو نقيض الجواب، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل، والعلة مترتب عليها وجود الفعل، فلا تشبيه بينهما، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله : فاذكروني، هو الفاء، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيها قبلها، ولولا الفاء لكان التعلق واضحاً، وتبعد زيادة الفاء. فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١٧


الصفحة التالية
Icon