قيل : سبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا : سيرجع محمد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا. هزهم بهذا النداء المتضمن هذا الوصف الشريف، وهو الإيمان مجعولاً فعلاً ماضياً في صلة الذين، دالاً على الثبوت والالتباس به في تقدّم زمانهم، ليكونوا أدعى لقبول ما يرد عليهم من الأمر والتكليف الشاق، لأن الصبر والصلاة هما ركنا الإسلام. فالصبر قصر النفس على المكاره والتكاليف الشاقة، وهو أمر قلبي ؛ والصلاة ثمرته، وهي من أشق التكاليف لتكررها. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيراً، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة. وقد قيد بعضهم الصبر هنا : بأنه الصبر على أذى الكفار بالطعن على التحول والصلاة إلى الكعبة، وبعضهم بالصبر على أداء الفرائض. وروي عن ابن عباس وبعضهم قال : هو كناية عن الصوم، ومنه قيل لرمضان : شهر الصبر، وبعضهم قال : هو كناية عن الجهاد لقوله : بعد :﴿وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ﴾، وهو قول أبي مسلم. والأولى ما قدمناه من عموم اللفظ، فتندرج هذه الأفراد تحته. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له. وقد تقدم الكلام على شرح هذه الجملة من قوله :﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ﴾ : أي بالمعونة والتأييد، كما قال : اهجهم، وروح القدس معك. وقال تعالى :﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾، ومن كان الله معه فهو الغالب، ولما كانت الصلاة ناشئة عن الصبر، وصار الصبر أصلاً لجميع التكاليف الشاقة قال :﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ﴾، فاندرج المصلون تحت الصابرين اندراج الفرع تحت الأصل. وأما قوله هناك :﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَـاشِعِينَ﴾، فأعاد الضمير عليها على ظاهر الكلام، لأنها أشرف وأشق نتائج الصبر..
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١٧
﴿وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتُا بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَـكِن لا تَشْعُرُونَ﴾، قيل : سبب نزول هذه الآية أنه قيل لمن قتل في سبيل الله : مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزلت. نهوا عن قولهم عن الشهداء أموات، وأخبر تعالى أنهم أحياء، وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم أموات، بل هم أحياء. ويحتمل أن يكون بل أحياء، مندرجاً تحت قول مضمر، أي بل قولوا هم أحياء. لكن يرجح الوجه الأول، وهو أنه إخبار من الله تعالى قوله :﴿وَلَـاكِن لا تَشْعُرُونَ﴾، لأن معناه : أن حياتهم لا شعور لكم بها، والظاهر أن المراد حقيقة الموت والحياة. وقيل : ذلك مجاز. واختلفوا فقيل : أموات بانقطاع الذكر، بل أحياء ببقائه وثبوت الأجر. وكانت العرب تسمي من لا يبقى له ذكر بعد موته كالولد، وغيره ميتاً. وقيل : أموات بالضلال، بل أحياء بالطاعة والهدى، كما قال :﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ﴾. وإذا حمل الموت والحياة على الحقيقة فاختلفوا، فقال قوم : معناه النهي عن قول الجاهلية أنهم لا يبعثون، فالمعنى : أنهم سيحيون بالبعث، فيثابون ثواب الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله. وأكثر أهل العلم على أنهم أحياء في الوقت. ومعنى هذه الحياة : بقاء أرواحهم دون أجسادهم، إذ أجسادهم نشاهد فسادها وفنائها. واستدلوا على بقاء الأرواح بعذاب القبر، وبقوله :﴿وَلَـاكِن لا تَشْعُرُونَ﴾ معناه : لا تشعرون بكيفية حياتهم. ولو كان المعنى بإحياء أنهم سيحيون يوم القيامة، أو أنهم على هدى ونور، لم يظهر لنفي الشعور معنى، إذ هو خطاب للمؤمنين، وهم قد علموا بالبعث، وبأنهم كانوا على هدى. فلا يقال فيه : ولكن لا تشعرون، لأنهم قد شعروا به وبقوله :﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١٧


الصفحة التالية
Icon