كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلّم :"من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار"، وذلك إذا كان لا يخاف على نفسه في بثه. وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم، وهم العرب الفصح المرجوع إليهم في فهم القرآن. كما روي عن عثمان وأبي هريرة وغيرهما : لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم. وقد امتنع أبو هريرة من تحديثه ببعض ما يخاف منه فقال : لو بثثته لقطع هذا البلعوم. وظاهر الآية استحقاق اللعنة على من كتم ما أنزل الله، وإن لم يسأل عنه، بل يجب التعليم والتبيين، وإن لم يسألوا، ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ لَتُبَيِّنُنَّه لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾. وقال الإمام أبو محمد عليّ بن أحمد بن حزم القرطبي، فيما سمع منه أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الحافظ : الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة ويدعو إليه في شارع السابلة وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المهال لطلابه ويجري الأجور لمقتبسيه ويعظم الأجعال للباحثين عنه ويسني مراتب أهله صابراً في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظاً جزيلاً وعملاً جيداً وسعداً كريماً وأحياءً للعلم، وإلا فقد درس وطمس ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام دائرة. انتهى كلامه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
﴿أُوالَئاِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـاعِنُونَ﴾ : هذه الجملة خبر إن. واستحقوا هذا الأمر الفظيع من لعنة الله ولعنة اللاعنين على هذا الذنب العظيم، وهو كتمان ما أنزل الله تعالى، وقد بينه وأوضحه للناس بحيث لا يقع فيه لبس، فعمدوا إلى هذا الواضح البين فكتموه، فاستحقوا بذلك هذا العقاب. وجاء بأولئك اسم الإشارة البعيد، تنبيهاً على ذلك الوصف القبيح، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد لتجدد مقتضيه، وهو قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾. ولذلك أتى صلة الذين فعلاً مضارعاً ليدل أيضاً على التجدد، لأن بقاءهم على الكتمان هو تجدد كتمان. وجاء بالجملة المسند فيها الفعل إلى الله، لأنه هو المجازي على ما اجترحوه من الذنب. وجاءت الجملة الثانية، لأن لعنة اللاعنين مترتبة على لعنة الله للكاتمين. وأبرز اسم الجلالة بلفظ الله على سبيل الالتفات، إذ لو جرى على نسق الكلام السابق، لكان أولئك يلعنهم، لكن في إظهار هذا الاسم من الفخامة ما لا يكون في الضمير. واللاعنون : كل من يتأتى منهم اللعن، وهم الملائكة ومؤمنو الثقلين، قاله الربيع بن أنس ؛ أو كل شيء من حيوان وجماد غير الثقلين، قاله ابن عباس والبرّاء بن عازب، إذا وضع في قبره وعذب فصاح، إذ يسمعه كل شيء إلا الثقلين ؛ أو البهائم والحشرات، قاله مجاهد وعكرمة، وذلك لما يصيبهم من الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين، أو الطاردون لهم إلى النار حين يسوقونهم إليها، لأن اللعن هو الطرد ؛ أو الملائكة ؛ قاله قتادة ؛ أو المتلاعنون، إذا لم يستحق أحد منهم اللعن انصرف إلى اليهود، قاله ابن مسعود ؛ والأظهر القول الأول. ومن أطلق اللاعنون على ما لا يعقل أجراه مجرى ما يعقل، إذ صدرت منه اللعنة، وهي من فعل من يعقل، وذلك لجمعه بالواو والنون. وفي قوله :﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـاعِنُونَ﴾، ضرب من البديع، وهو التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً.
﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا ﴾ : هذا استثناء متصل، ومعنى تابوا عن الكفر إلى الإسلام، أو عن الكتمان ءلى الإظهار. ﴿وَأَصْلَحُوا ﴾ ما أفسدوا من قلوبهم بمخالطة الكفر لها، أو ما أفسدوا من أحوالهم مع الله، أو أصلحوا قومهم بالإِرشاد إلى الإِسلام بعد الإضلال. ﴿وَبَيَّنُوا ﴾ : أي الحق الذي كتموه، أو صدق توبتهم بكسر الخمر وإراقتها، أو ما في التوراة والإِنجيل من صفة محمد صلى الله عليه وسلّم، أو اعترفوا بتلبيسهم وزورهم، أو ما أحدثوا من توبتهم، ليمحوا سيئة الكفر عنهم
٤٥٩
ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين. ﴿فَأُوالَئاِكَ﴾ : إشارة إلى من جمع هذه الأوصاف من التوبة والإصلاح والتبيين. ﴿أَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ : أي أعطف عليهم، ومن تاب الله عليه لا تلحقه لعنة. ﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ : تقدم الكلام في هاتين الصفتين، وختم بهما ترغيباً في التوبة وإشعاراً بأن هاتين الصفتين هما له، فمن رجع إليه عطف عليه ورحمه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣


الصفحة التالية
Icon