وقال في المنتخب : لما قال تعالى :﴿وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ﴾، أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول : هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فلا جرم. أزال ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال : لا إله إلا هو. فقوله : لا إله يقتضي النفي العام الشامل، فإذا قال بعده : إلا الله، أفاد التوحيد التامّ المطلق المحقق. ولا يجوز أن يكون في الكلام حذف، كما يقوله النحويون، والتقدير : لا إله لنا، أو في الوجود، إلا الله، لأن هذا غير مطابق للتوحيد الحق، لأنه إن كان المحذوف لنا، كان توحيداً لإلهنا لا توحيداً للإله المطلق، فحينئذ لا يبقى بين قوله :﴿وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ﴾، وبين قوله :﴿لا إله إِلا هُوَ الْحَىُّ﴾، فيكون ذلك تكراراً محضاً، وأنه غير جائز. وأما إن كان المحذوف في الوجود، كان هذا نفياً لوجود الإله الثاني. أما لو لم يضمر، كان نفياً لماهية الإله الثاني، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى، وإنما قدم النفي على الإثبات، لغرض إثبات التوحيد، ونفي الشركاء والأنداد. انتهى الكلام.
قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ريّ الظمآن) : هذا كلام من لا يعرف لسان العرب. فإن لا إله في موضع المبتدأ، على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين، لا بد من خبر للمبتدأ، أو للا، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد. وأما قوله : إذا لم يضمر كان نفياً للماهية، قلنا : نفي الماهية هو نفي الوجود، لأن نفي الماهية لا يتصوّر عندنا إلا مع الوجود، فلا فرق عنده بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود، والدليل يأبى ذلك. انتهى كلامه، وما قاله من تقدير خبر لا بد منه، لأن قوله : لا إله، كلام، فمن حيث هو كلام، لا بد فيه من مسنده ومسند إله. فالمسند إليه هو إله، والمسند هو الكون المطلق، ولذلك ساغ حذفه، كما
٤٦٣
ساغ بعد قولهم : لولا زيد لأكرمتك، إذ تقديره : لولا زيد موجود، لأنها جملة تعليقية، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا، إذا علم، كثر حذفه عند الحجازيين، ووجب حذفه عند التميميين. وإذا كان الخبر. كوناً مطلقاً، كان معلوماً، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها، بخلاف الكون المقيد، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه، فلذلك لا يجوز حذفه نحو : لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد، إلا أن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم، فيجوز حذفه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
﴿الرَّحْمَـانُ الرَّحِيمُ﴾ : ذكر هاتين الصفتين منبهاً بهما على استحقاق العبادة له، لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشراً سوياً عاقلاً وتربية في دار الدنيا موعوداً الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة، جدير بعبادتك له والوقوف عند أمره ونهيه، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته. وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب، ذكرت آية رحمة، وإذا ذكرت آية رحمة، ذكرت آية عذاب. وتقدم شرح هاتين الصفتين، فأغنى عن إعادته. ويجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو، وعلى إضمار مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الرحيم، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر لقوله : وإلهكم، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار : إله واحد خبر، ولا إله إلا هو خبر ثان، والرحمن الرحيم خبر ثالث. ولا يجوز أن يكون خبراً لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة، بخلاف قولك : ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد. قالوا : ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو، لأن المضمر لا يوصف. انتهى. وهو جائز على مذهب الكسائي، إذا كانت الصفة للمدح، وكان الضمير الغائب. وأهمل ابن مالك القيد الأول، فأطلق عن الكسائي أنه يجيز وصف الضمير الغائب. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"إن هاتين الآيتين اسم الله الأعظم، وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم".
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣


الصفحة التالية
Icon