جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
وقد تكلموا في أنواع الريح واشتقاق أسمائها وفي طبائعها، وفيما جاء فيها من الآثار، وفيما قيل فيها من الشعر، وليس ذلك من غرضنا. والريح جسم لطيف شفاف غير مرئي، ومن آياته ما جعل الله فيه من القوة التي تقلع الأشجار وتعفي الآثار وتهدم الدياروتهلك الكفار، وتربية الزرع وتنميته واشتداده بها، وسوق السحاب إلى البلد الماحل. واختلف القراء في إفراد الرّيح وجمعه في أحد عشر موضعاً. هذا، وفي الشريعة وفي الأعراف :﴿يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ﴾، و﴿اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ﴾، و﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـاحَ لَوَاقِحَ﴾، و﴿تَذْرُوهُ الرِّيَـاحُ﴾، وفي الفرقان :﴿أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ﴾، ﴿وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ﴾، وفي الروم :﴿اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ﴾، وفي فاطر :﴿أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ﴾، وفي الشورى :﴿إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾. فأفرد حمزة إلا في الفرقان، والكسائي إلا في الحجر، وجمع نافع الجميع والعربيان إلافي إبراهيم والشورى، وابن كثير في البقرة والحجر والكهف والشريعة فقط. وفي مصحف حفصة هنا وتصريف الأرواح. ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام. وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله :﴿وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾. وفي الحديث :"اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً". قال ابن عطية : لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة منقطعة، فلذلك هي رياح، وهو معنى ينشر، وأفردت مع الفلك، لأن ريح أجزاء السفن إنما هي واحدة متصلة. ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب، انتهى. ومن قرأ بالتوحيد، فإنه يريد الجنس، فهو كقراءة الجمع. والرياح في موضع رفع، فيكون تصريف مصدراً مضافاً للفاعل، أي وتصريف الرياح، السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن الله. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، فيكون المصدر في المعنى مضافاً إلى الفاعل، وفي اللفظ مضافاً إلى المفعول، أي وتصريف الله الرياح.
﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾، تسخيره : بعثه من مكان إلى مكان. وقيل : تسخيره : ثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه. ووصف السحاب هنا بالمسخر، وهو مفرد لأنه اسم جنس، وفيه لغتان : التذكير : كهذا وكقوله :﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾، والتأنيث على معنى تأنيث الجمع، فتارة يوصف بما يوصف به الواحدة المؤنثة، وتارة يوصف بما يوصف به الجمع كقوله تعالى :﴿حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا﴾. قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر، ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض. فقيل : السحاب يأخذ المطر من السماء، وقيل : يغترفه من بحار الأرض، وقيل : يخلقه الله فيه، وللفلاسفة فيه أقوال. وجعل مسخراً باعتبار إمساكه الماء، إذ الماء ثقيل، فبقاؤه في جوّ الهواء هو على خلاف ما طبع عليه، وتقديره بالمقدار المعلوم الذي فيه المصلحة، يأتي به الله في وقت الحاجة، ويرده عند زوال الحاجة، أو
٤٦٧
سوقه بواسطة تحريك الريح إلى حيث أراد الله تعالى. وفي كل واحد من هذه الأوجه استدلال على الوحدانية.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
﴿بَيْنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ﴾ : انتصاب بين على الظرف، والعامل فيه المسخر، أي سخر بين كذا وكذا، أو محذوف تقديره كائناً بين، فيكون حالاً من الضمير المستكن في المسخر. ﴿لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ : دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها، إذ لو كان يليها، ما جاز دخولها، وهي لام التوكيد، فصار في الجملة حرفا تأكيد : إن واللام. ولقوم : في موضع الصفة، أي كائنة لقوم. والجملة صفة لقوم، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلاً، فإنه يشاهد من هذه الآية ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وانفراده بالإلهية، وعظيم قدرته، وباهر حكمته. وقد أثر في الأثر : ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها، أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد، وأنه منفرد بالإلهية، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار. ثم مع كونها دلائل، بل هي نعم من الله على عباده، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر. لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكناً من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب، وهذه الأشياء التي ذكرها الله ثمانية، وإن جعلنا : وبث فيها، على حذف موصول، كما قدرناه في أحد التخريجين، كانت تسعة، وهي باعتبار تصير إلى أربعة : خلق، واختلاف، وإنزال ماء، وتصريف.


الصفحة التالية
Icon