قال الزمخشري : فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد. قلت : قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة. ألا ترى أن القائل إذا قال : أكل فلان ميتة، لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد ؟ كما لو قال : أكل دماً، لم يسبق إلى الكبد والطحال. ولاعتبار العادة والتعارف قالوا : من حلف لا يأكل لحماً، فأكل سمكاً، لم يحنث، وإن أكل لحماً في الحقيقة. وقال الله تعالى :﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾، وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة، فركب كافراً، لم يحنث وإن سماه الله دابة في قوله :﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾. انتهى كلامه.
وملخص ما يقوله : إن السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة، وليس كما قال. وكيف يكون ذلك، وقد
٤٨٦
روي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"أحلت لنا ميتتان" ؟ فلو لم يندرج في الدلالة، لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله، إذ كان يبقى مدلولاً على حله بقوله :﴿كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ﴾. وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه فى العادة، كما قال الزمخشري، بل لو لم يكن للمخاطب شعور البتة، ولا علم ببعض أفراد العام، وعلق الحكم على العام، لاندرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به. مثال ذلك ما جاء في الحديث :"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن أكل كل ذي ناب من السباع". فهذا علق الحكم فبه بكل ذي ناب. والمخاطب، الذين هم العرب، لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي، كما في بلادنا، بلاد الأندلس، حيوان مفترس يسمى عندهم بالدب وبالسمع، وهو ذو أنياب يفترس الرجل ويأكله، ولا يشبه الأسد، ولا الذئب، ولا النمر، ولا شيئاً مما يعرفه العرب، ولا نعلمه خلق بغير بلاد الأندلس. فهذا لا يذهب أحد إلى أنه ليس مندرجاً في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب، بل شمله النهي، كما شمل غيره مما تعاهده العرب وعرفوه، لأن الحكم نيط بالعموم وعلق به، فهو معلق بكل فرد من أفراده، حتى بما كان لم يخلق ألبتة وقت الخطاب، ثم خلق شكلاً مبايناً لسائر الأشكال ذوات الأنياب، فيندرج فيه، ويحكم بالنهي عنه. وإنما تمثيل الزمخشري بالإيمان، فللإيمان أحكام منوطة بها، ويؤول التحقيق فيها إلى أن ذلك تخصيص للعموم بإرادة خروج بعض الأفراد منه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٧
والميتة : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة. واختلف في السمك الطافي، وهو ما مات في الماء فطفا. فذهب مالك وغيره أنه حلال. ومذهب العراقيين أنه ممنوع من أكله. وفي كلام بعض الحنفيين عن أبي حنيفة أنه مكروه. وأما ما مات من الجراد بغير تسبب، فهو عند مالك وجمهور أصحابه أنه حرام، وعند ابن عبد الحكم وابن نافع حلال، وعند ابن القاسم وابن وهب وأشهب وسحنون تقييدات في الجراد ذكرت في كتب المالكية. هذا حكم الميتة بالنسبة إلى الأكل. وأما الانتفاع بشيء منها، نحو : الجلد، والشعر، والريش، واللبن، والبيض، والأنفخة، والجنين، والدهن، والعظم، والقرن، والناب، والغصب، فذلك مذكور في كتب الفقه، ولهم في ذلك اختلاف وتقييد كثير يوقف على ذلك في تصانيفهم.
والدم : ظاهره العموم، ويتخصص بالمسفوح لآية الأنعام. فإذا كان مسفوحاً، فلا خلاف في نجاسته وتحريمه. وفي دم السمك المزايل له في مذهب مالك قولان : أحدهما : أنه طاهر، ويقتضي ذلك أنه غير محرم. وأجمعوا على جواز أكل الدم المتحلل بالعروق واللحم الشاق إخراجه، وكذلك الكبد والطحال. وذكر المفسرون في يسير الدم المسفوح الخلاف في العفو عنه، وفي مقدار اليسير، والخلاف في دم البراغيث والبق والذباب، وهذا كله من علم الفقه، فيطالع في كتب الفقه. ولم يذكرالله تعالى حكمة في تحريم أكل الميتة والدم، ولا جاء نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك. ولو تعبدنا تعالى بجواز أكل الميتة والدم، لكان ذلك شرعاً يجب اتباعه. وقد ذكروا أن الحكمة في تحريم الميتة جمود الدم فيها بالموت، وأنه يحدث أذى للآكل. وفي تحريم الدم أنه بعد خروجه يجمد، فهو في الأذى كالجامد في الميتة، وهذا ليس بشيء، لأن الحس يكذب ذلك. وجدنا من يأكل الميتة، ويشرب الدم من الأمم، صورهم وسحنهم من أحسن ما يرى وأجمله، ولا يحدث لهم أذى بذلك.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٧
ولحم الخنزير : ظاهره أن المحرم منه هو لحمه فقط. وقد ذهب إلى ذلك داود، رأس الظاهرية، فقال : المحرم اللحم دون الشحم. وقال غيره من سائر العلماء : المحرم لحمه وسائر أجزائه. وإنما خص اللحم بالذكر، والمراد جميع أجزائه، لكون اللحم هو معظم ما ينتفع به. كما نص على قتل الصيد على المحرم، والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد. وكما نص على ترك البيع ﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ﴾، لأنه كان أعظم ما كانوا يبتغون به منافعهم، فهو أشغل
٤٨٧


الصفحة التالية
Icon