وقد تقدمت المذاهب في ذلك عند الكلام على قوله تعالى :﴿سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ﴾ والمفعول الذي لم يسم فاعله في ذلك حكمه حكم الفاعل، وتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن المفعول الذي لم يسمّ فاعله هو مضمر تقديره هو، يفسره سياق الكلام كما فسر المضمر في قوله تعالى :﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ سياق الكلام والمعنى، وإذا قيل لهم قول شديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب لأنها مفسرة لذلك المضمر الذي هو القول الشديد، ولا جائز أن يكون لهم في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله لأنه لا ينتظم منه مع ما قبله كلام، لأنه يبقي لا تفسدوا لا ارتباط له، إذ لا يكون معمولاً للقول مفسراً له.
وزعم الزمخشري أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجملة التي هي : لا تفسدوا، وجعل ذلك من باب الإسناد اللفظي ونظره بقولك ألف حرف من ثلاثة أحرف، ومنه زعموا مطية الكذب، قال : كأنه قيل، وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام، انتهى. فلم يجعله من باب الإسناد إلى معنى الجملة لأن ذلك لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، فعدل إلى الإسناد اللفظي، وهو الذي لا يختص به الاسم بل يوجد في الإسم والفعل والحرف والجملة، وإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى الإسناد اللفظي، وقد أمكن ذلك بالتخريج الذي ذكرناه. واللام في قوله : لهم، للتبليغ، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها للام عند كلامنا على قوله تعالى :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾. وإفسادهم في الأرض بالكفر، قاله ابن عباس، أو المعاصي، قاله أبو العالية ومقاتل، أو بهما، قاله السدي عن أشياخه ؛ أو بترك امتثال الأمر واجتناب النهي، قاله مجاهد ؛ أو بالنفاق الذي ضافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، ذكره علي بن عبيد الله، أو بإعراضهم عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلّم والقرآن ؛
٦٤
أو بقصدهم تغيير الملة، قاله الضحاك، أو باتباعهم هواهم وتركهم الحق مع وضوحه، قاله بعضهم.
وقال الزمخشري : الإفساد في الأرض تهييج الحروب والفتن، قال : لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، قال تعالى :﴿لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾، ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ﴾، ومنه قيل لحرب كانت بين طيء : حرب الفساد، انتهى كلامه. ووجه الفساد بهذه الأقوال التي قيلت أنها كلها كبائر عظيمة ومعاص جسيمة، وزادها تغليظاً إصرارهم عليها، والأرض متى كثرت معاصي أهلها وتواترت، قلّت خيراتها ونزعت بركاتها ومنع عنها الغيث الذي هو سبب الحياة، فكان فعلهم الموصوف أقوى الأسباب لفساد الأرض وخرابها. كما أن الطاعة والاستغفار سبب لكثرة الخيرات ونزول البركات ونزول الغيث، ألا ترى قوله تعالى :﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾، ﴿وَإِنَّ لُوطًا﴾ ﴿اسْتَقَـامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ﴾ ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا ﴾، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالانجِيلَ﴾، الآيات.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٠
وقد قيل في تفسيره ما روي في الحديث من أن الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، إن معاصيه يمنع الله بها الغيث، فيهلك البلاد والعباد لعدم النبات وانقطاع الأقوات. والنهي عن الإفساد في الأرض من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب. فمتعلق النهي حقيقة هو مصافاة الكفار وممالأتهم على المؤمنين بإفشاء السر إليهم وتسليطهم عليهم، لإفضاء ذلك إلى هيج الفتن المؤدي إلى الإفساد في الأرض، فجعل ما رتب على المنهي عنه حقيقة منهياً عنه لفظاً. والنهي عن الإفساد في الأرض هنا كالنهي في قوله تعالى :﴿وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ﴾. وليس ذكر الأرض لمجرد التوكيد بل في ذلك تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه نشأتكم وتصرفكم، ومنه مادة حياتكم، وهو سترة أمواتكم، جدير أن لا يفسد فيه، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد. ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا﴾ وقال تعالى :﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾، الآية. إلى غير ذلك من الآيات المنبهة على الامتنان علينا بالأرض، وما أودع الله فيها من المنافع التي لا تكاد تحصى.


الصفحة التالية
Icon