وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدل على عظم شأن المؤمنين وعلو منزلتهم، وليعلم المنافقون أن الله هو الذي يذب عنهم ويحاب من حاربهم. وفي افتتاح الجملة باسم التفخيم العظيم، حيث صدرت الجملة به، وجعل الخبر فعلاً مضارعاً يدل عندهم على التجددد والتكرر، فهو أبلغ في النسبة من الاستهزاء المخبرية في قولهم، ثم في ذلك التنصيص على الذين يستهزىء الله بهم، إذ عدى الفعل إليهم فقال : يستهزىء بهم وهم لم ينصوا حين نسبوا الاستهزاء إليهم على من تعلق به الاستهزاء، فلم يقولوا : إنما نحن مستهزؤن بهم وذلك لتحرجهم من إبلاغ ذلك للمؤمنين فينقمون ذلك عليهم، فأبقوا اللفظ محتملاً أن لو حوققوا على ذلك لكان لهم مجال في الذب عنهم أنهم لم يستهزؤا بالمؤمنين. ألا ترى إلى مداراتهم عن أنفسهم بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر، وبقولهم : إذا لقوهم قالوا آمنا فهم، عند لقائهم لا يستطيعون إظهار المداراة، ولا مشاركتهم بما يكرهون، بل يظهرون الطواعية والانقياد.
وقرأ ابن محيصن وشبل : يمدهم وتروى عن ابن كثير : ونسبة المد إلى الله حقيقة، إذ هو موجد الأشياء والمنفرد باختراعها. والمعنى : أن الله تعالى يطول لهم في الطغيان. وقد ذهب الزمخشري إلى تأويل المد المنسوب إلى الله تعالى بأنه منع الألطاف وخذلانهم بسبب كفرهم وإصرارهم، بقيت قلوبهم تتزايد الظلمة فيها تزايد النور في قلوب المؤمنين، فسمى ذلك التزايد مداً وأسند إلى الله لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم، أو بأن المد هو على معنى القسر والالجاء. قال : أو على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عبادة، وإنما ذهب إلى التأويل في المد لأن مد الله لهم في الطغيان قبيح، والله منزه عن فعل القبيح. والتأويل الأول الذي ذكره الزمخشري : قول الكعبي، وأبي مسلم. وقال الجبائي : هو المد في العمر، وعندنا نحن أن الله خالق الخير والشر، وهو الهادي والمضل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٠
وقد تقدم الكلام في نحو من هذا عند قوله تعالى :﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ ومد الله في طغيانهم، التمكين من العصيان، قاله ابن مسعود، أو الإملاء، قاله ابن عباس، أو الزيادة من الطغيان، قاله مجاهد، أو الإمهال، قاله الزجاج وابن كيسان، أو تكثير الأموال، والأولاد، وتطييب الحياة، أو تطويل الأعمار، ومعافاة الأبدان، وصرف الرزايا، وتكثير الأرزاق. وقرأ زيد بن علي : في طغيانهم بكسر الطاء، وهي لغة، يقال : طغيان بالضم والكسر، كما قالوا : القيان، وغينان، بالضم والكسر. وأمال الكسائي في طغيانهم، وأضاف الطغيان إليهم لأنه
٧٠
فعلهم وكسبهم، وكل فعل صدر من العبد صحت إضافته إليه بالمباشرة، وإلى الله بالاختراع. وما فسر به العمه يحتمله قوله تعالى :﴿يَعْمَهُونَ﴾، فيكون المعنى : يترددون ويتحيرون، أو يعمون عن رشدهم، أو يركبون رؤوسهم ولا يبصرون. قال بعض المفسرين : وهذا التفسير الأخير أقرب إلى الصواب لأنهم لم يكونوا مترددين في كفرهم، بل كانوا مصرين عليه، معتقدين أنه الحق، وما سواه الباطل. يعمهون : جملة في موضع الحال، نصب على الحال، إما من الضمير في يمدهم وإما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل، وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقاً بيمدهم، ويحتمل أن يكون متعلقاً بيعمهون. ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم، قال : لأن العامل لا يعمل في حالين. انتهى كلامه.
وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد، وهو أن تكون الحالان لذي حال واحدة، فإن كانا لذوي حال جاز، نحو : لقيت زيداً مصعداً منحدراً فأما إذا كانا لذي حال واحد، كما ذكرناه، ففي إجازة ذلك خلاف. ذهب قوم إلى أن لا يجوز كما لم يجز ذلك للعامل أن يقضي مصدرين، ولا ظرفي زمان، ولا ظرفي مكان، فكذلك لا يقضي حالين. وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن لا يكون الثاني على جهة البدل، أو معطوفاً، فإنه إذا كانا كذلك جازت المسألة. قال : بعضهم : إلا أفعل التفضيل، فإنها تعمل في ظرفي زمان، وظرفي مكان، وحالين لذي حال، فإن ذلك يجوز، وهذا المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور. وذهب قوم إلى أنه يجوز للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد، وإلى هذا أذهب، لأن الفعل الصادر من فاعل، أو الواقع بمفعول، يستحيل وقوعه في زمانين، وفي مكانين. وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال واحد، إلا إن كانا ضدين، أو نقيضين. فيجوز أن تقول : جاء زيد ضاحكاً راكباً، لأنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين. فعلى هذا الذي قررناه من الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال واحد، والعامل فيهما واحد.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٠


الصفحة التالية
Icon