أي لا منار له فيهتدي به، فنفى الهداية، وهو يريد نفي المنار، ويلزم من نفي المنار نفي الهداية به، فكذلك هذه الآية لما ذكر شراء شيء بشيء، توهم أن هذا الذي فعلوه هو من باب التجارة، إذ التجارة ليس نفس الاشتراء فقط، وليس بتاجر، إنما التجارة : التصرف في المال لتحصيل النموّ والزيادة فنفى الربح. والمقصود نفي التجارة أي لا يتوهم أن هذا الشراء الذي وقع هو تجارة فليس بتجارة وإذا لم يكن تجارة انتفى الربح فكأنه قال : فلا تجارة لهم ولا ربح. وقال الزمخشري معناه : إن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان : سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً، لأن رأس المال مالهم كان هو الهدى، فلم يبق لهم مع الضلالة، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأعراض الدنيوية، لأن الضلال خاسر دامر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح. انتهى كلامه. ومع ذلك ليس بمخلص في الجواب لأن نفي الربح عن التجارة لا يدل على ذهاب كل المال، ولا على الخسران فيه، لأن الربح هو الفضل على رأس المال، فإذا نفى الفضل لم يدل على ذهاب رأس المال بالكلية، ولا على الانتقاص منه، وهو الخسران. قيل : لما لم يكن قوله تعالى :﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَـارَتُهُمْ﴾ مفيداً لذهاب رؤوس أموالهم، أتبعه بقوله :﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾، فكمل المعنى بذلك، وتم به المقصود، وهذا النوع من البيان يقال له : التتميم، ومنه قول امرىء القيس :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٠
كأن عيون الوحش حول خبائناوأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
تمم المعنى بقوله : الذي لم يثقب، وكمل الوصف وسمى الله تعالى اعتياضهم الضلالة عن الهدى تجارة، وإن كانت التجارة هي البيع والشراء المتحقق منه الفائدة، أو المترجى ذلك منه. وهذا الاعتياض منفي عنه ذلك، لأن الكفر محبط للأعمال. قال تعالى :﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا ﴾ الآية. وفي الحديث، أنه صلى الله عليه وسلّم سئل عن ابن جدعان : وهو ينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين ؟ فقال :"لا إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"، لأنهم لم يعتاضوا ذلك إلا لما تحققوا وارتجوا من العوائد الدنيوية والأخروية. ألا ترى إلى قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه، وقولهم :﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾. وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أياماً معدودة، وبعضهم يقول يوماً واحداً، وبعضهم عشراً، وكل طائفة من الكفار تزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل. فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة، ونفى الله تعالى عنهم كونهم مهتدين. وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين، أو مهتدين من الضلالة، أو للتجارة الرابحة، أو في اشتراء الضلالة، أو نفي عنهم الهداية والربح، لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى، وعلى استقامة، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية. والذي أختاره أن قوله تعالى :﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله : بالهدى، أنهم كانوا على هدى فيما مضى، فبين قوله :﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ مجاز قوله : بالهدى، ودل على أن الذي
٧٣
اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى، فالمثبت في الاعتياض غير المنفى أخيراً، لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل. وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان، فهو منصوب بها وحدها خلافاً لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معاً، وخلافاً لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال، وهو الفراء، قال : لشغل الإسم برفع كان، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالاً خبراً فأتى معرفة، فقيل : كان أخوك زيداً تغليباً للخير، لا للحال.
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أقوالاً : أحدها : أنها نزلت في المنافقين. الثاني : في قوم أعلم الله بوصفهم قبل وجودهم، وفيه إعلام بالمغيبات. الثالث : في عبد الله بن أبي وأصحابه نزل :﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ والتي قبلها في جميع المنافقين، وذكروا ما معناه : أنه لقي نفراً من المؤمنين، فقال لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذكر أنه مدح وأثنى على أبي بكر وعمر وعلي، فوبخه علي وقال له : لا تنافق، فقال : ألي تقول هذا، والله إن إيماننا كإيمانكم، ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ؟ فأثنوا عليه خيراً. وقد تقدمت أقاويل غير هذه الثلاثة في غضون الكلام قبل هذا.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٠


الصفحة التالية
Icon