وأما قول الفارسي : إنها مثل مَن، ليس كذلك لأن الذي صيغة مفرد وثني وجمع بخلاف مَن، فلفظ مَن مفرد مذكر أبداً وليس كذلك الذي، وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى :﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾، وأعل لتسويغ ذلك بأمرين، قال : أحدهما : أن الذي لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة واستطالته بصلته حقيق بالتخفيف، ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين، وهذا الذي ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام، وإن كان قد تقدمه إليه بعض النحويين، خطأ، لأنه لو كانت اللام بقية الذي لكان لها موضع من الإعراب، كما كان للذي، ولما تحظى العامل إلى أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها، ويجاز وصلها بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أو حذفت، قال : والثاني : إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهن سواء ؟ انتهى. وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون صحيح من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فليس كذلك، بل هو مثله من حيث المعنى، ألا ترى أنه لا يكون واقعاً إلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من الذكورية والعقل ؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين من جهة أنه لا يكون إلا جمعاً لمذكر عاقل، ولكنه لما كان مبنياً التزم فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثر العرب، وهذيل أتت بصيغة الجمع فيه بالواو والنون رفعاً والياء والنون نصباً وجراً، وكل العرب التزمت جمع الضمير العائد عليه من صلته كما يعود على الجمع المذكر العاقل، فدل هذا كله على أن ما ذكره ليس بمسوغ لأن يوضع الذي موضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من إرادة الجمع أو النوع، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيراً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤
وقرأ ابن السميفع : كمثل الذين، على الجمع، وهي قراءة مشكلة، لأنا قد ذكرنا أن الذي إذا كان أصله الذين فحذفت نونه تخفيفاً لا يعود الضمير عليه إلا كما يعود على الجمع، فكيف إذا صرح به ؟ وإذا صحت هذه القراءة فتخريجها عندي على وجوه : أحدها : أن يكون إفراد الضمير حملاً على التوهم المعهود مثله في لسان العرب، كأنه نطق بمن الذي هو لفظ ومعنى، كما جزم بالذي من توهم أنه نطق بمن الشرطية، وإذا كان التوهم قد وقع بين مختلفي الحد، وهو إجراء الموصول في الجزم مجرى اسم الشرط، فبالحري أن يقع بين متفقي الحد، وهو الذين، ومن الموصولان مثال الجزم بالذي، قول الشاعر، أنشده ابن الأعرابي :
كذاك الذي يبغي على الناس ظالماتصبه على رغم عواقب ما صنع
الثاني : أن يكون إفراد الضمير، وإن كان عائداً على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي بالمفرد الظاهر عن الجمع، وقد جاء مثل ذلك في لسان العرب، أنشد أبو الحسن :
وبالبدو منا أسرة يحفظونناسراع إلى الداعي عظام كراكره
أي كراكرهم.
والثالث : أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائداً على الذين، وإنما هو عائد على اسم الفاعل المفهوم من استوقد، التقدير استوقد هو، أي المستوقد، فيكون نحو قوله تعالى :﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنا بَعْدِ مَا رَأَوُا الايَـاتِ﴾ أي هو أي البداء المفهوم من بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية، وفي العائد على الذين وجهان على هذا التأويل. أحدهما : أن يكون حذف وأصله لهم، أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد ناراً وإن لم تكن فيه شروط الحذف المقيس، فيكون مثل قول الشاعر :
٧٧
ولو أن ما عالجت لين فؤادهافقسا استلين به للان الجندل
يريد ما عالجت به، فحذف حرف الجر والضمير، وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس، وهي مذكورة في مبسوطات كتب النحو، وضابطها أن يكون الضمير مجروراً بحرف جر ليس في موضع رفع، وأن يكون الموصول، أو الموصوف به الموصول، أو المضاف للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظاً ومعنى، وأن يكون الفعل الذي تعلق به الحرف الذي جر الضمير، مثل ذلك الفعل الذي تعلق به الحرف السابق. والوجه الثاني : أن تكون الجملة الأولى الواقعة صلة لا عائد فيها، لكن عطف عليها جملة بالفاء، وهي جملة لما وجوابها، وفي ذلك عائد على الذي، فحصل الربط بذلك العائد المتأخر، فيكون شبيهاً بما أجازوه من الربط في باب الابتداء من قولهم : زيد جاءت هند فضربتها، ويكون العائد على الذين الضمير الذي في جواب لما، وهو قوله تعالى :﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، ولم يذكر أحد ممن وقفنا على كلامه تخريج قراءة ابن السميمع.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤


الصفحة التالية
Icon