وفي معنى :﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ ثلاثة أقوال : قال ابن عباس : هو مثل ضرب للمنافقين، كانوا يعتزون بالإسلام، فناكحهم المسلمون ووارثوهم وقاسموهم الفيء، فلما ماتوا سبلهم الله العز، كما سلب موقد النار ضوءه، ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾، أي في عذاب. الثاني : إن ذهاب نورهم باطلاع الله المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر من كفرهم. الثالث : أبطل نورهم عنده، إذ قلوبهم على خلاف ما أظهروا، فهم كرجل أوقد ناراً ثم طفئت فعاد في ظلمة. وهذه الأقوال إنما تصح إذا كان الضمير في بنورهم عائداً على المنافقين، وإن عاد على المستوقدين، فذهاب النور هو إطفاء النار التي أوقدوها، ويكون بأمر سماوي ليس لهم فيه فعل، فلذلك قال الضحاك : لما أضاءت النار أرسل الله عليها ريحاً عاصفاً فاطفأها، وهذا التأويل يأتي على قول من قال : إنها نار حقيقة أوقدها أهل الفساد ليتوصلوا بها وبنورها إلى فسادهم وعبثهم، فأخمد الله نارهم وأضل سعيهم، وأما إذا قلنا إن ذكر النار هنا مثل لا حقيقة لها، وإن المراد بها نار العداوة والحقد، فإذهاب الله لها دفع ضررها عن المؤمنين. وإذا كانت النار مجازية، فوصفها بالإضاءة ما حول المستوقد هو من مجاز الترشيح، وقد تقدم الكلام فيه. وإذهاب النور أبلغ من إذهاب الضوء لاندراج الأخص في نفي الأعم، لا العكس. فلو أتى بضوئهم لم يلزم ذهاب النور. والمقصود إذهاب النور عنهم أصلاً، ألا ترى كيف عقبه بقوله :﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ ؟ وإضافة النور إليهم من باب الإضافة بأدنى ملابسة، إذ إضافته إلى النار هو الحقيقة، لكن مما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤
وقرأ الجمهور : في ظلمات بضم اللام، وقرأ الحس، وأبر السماك : بسكون اللام، وقرأ قوم : بفتحها. وهذه اللغى الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين، غير المضعف، ولا المعل اللام بالتاء. فإن اعتلت بالياء نحو : كلية، امتنعت الضمة، أو كان مضعفاً نحو : دره، أو معتل العين نحو : سورة، أو وصفاً نحو : بهمة امتنعت الفتحة والضمة. وقرأ قوم : إن ظلمات، بفتح اللام جمع ظلم، الذي هو جمع ظلمة. فظلمات على هذا جمع جمع، والعدول إلى الفتح تخفيفاً أسهل من ادعاء جمع الجمع، لأن العدول إليه قد جاء في نحو : كسرات جمع كسرة
٨٠
جوار، أو إليه في نحو : جفنة وجوباء. وفعلة وفعلة أخوات، وقد سمع فيها الفتح بالقيود التي تقدمت، وجمع الجمع ليس بقياس، فلا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل قاطع. وقرأ اليماني : في ظلمة، على التوحيد ليطابق بين إفراد النور والظلمة وقراءة الجمع، لأن كل واحد له ظلمة تخصه، فجمعت لذلك. وحيث وقع ذكر النور والظلمة في القرآن جاء على هذا المنزع من إفراد النور وجمع الظلمات. وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله. ونكرت الظلمات ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اكتفاء بما دل عليه المعنى من إضافتها إليهم من جهة المعنى واختصار اللفظ، وإن كان ترك متعدياً لواحد فيحتمل أن يكون : في ظلمات، في موضع الحال من المفعول، فيتعلق بمحذوف، ولا يبصرون : في موضع الحال أيضاً، إما من الضمير في تركهم وإمّا من الضمير المستكن في المجرور فيكون حالاً متداخلة، وهي في التقديرين حال مؤكدة. ألا ترى أن من ترك في ظلمة لزم من ذلك أنه لا يبصر ؟ وإن كان ترك مما يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات في موضع المفعول الثاني، ولا يبصرون جملة حالية ؟ ولا يجوز أن يكون في ظلمات في موضع الحل، ولا يبصرون جملة في موضع المفعول الثاني، وإن كان يجوز ظننت زيداً منفرداً لا يخاف، وأنت تريد ظننت زيداً في حال انفراده لا يخاف لأن المفعول الثاني أصله خبر لمبتدأ، وإذا كان كذلك فلا يأتي الخبر على جهة التأكيد، إنما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الإخبار. فإذا جعلت في ظلمات في موضع الحال كان قد فهم منها أن من هو في ظلمة لا يبصر، فلا يكون في قوله لا يبصرون من الفائدة إلا التوكيد، وذلك لا يجوز في الإخبار. ألا ترى إلى تخريج النحويين قول امرىء القيس :
إذا ما بكى من خلفها انحرفت لهبشق وشق عندنا لم يحول
على أن وشق مبتدأ وعندنا في موضع الخبر، ولم يحول جملة حالية أفادت التأكيد، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر، لأنه يؤدي إلى مجيء الخبر مؤكداً، لأن نفي التحويل مفهوم من كون الشق عنده، فإذا استقر عنده ثبت أنه لم يحول عنه. قال ابن عباس : والظلمات هنا العذاب، وقال مجاهد : ظلمة الكفر، وقال قتادة : ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت، وقال السدّي : ظلمة النفاق، ولم يذكر مفعول لا يبصرون، ولا ينبغي أن ينوي، لأن المقصود نفي الإبصار عنهم لا بالنسبة إلى متعلقه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤


الصفحة التالية
Icon