الإحاطة هنا : كناية عن كونه تعالى لا يفوتونه، كما لا يفوت المحاط المحيط به، فقيل : العلم وقيل : بالقدرة، وقيل : بالإهلاك. وهذه الجملة اعتراضية لأنها دخلت بين هاتين الجملتين اللتين هما : يجعلون أصابعهم، ﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾، وهما من قصة واحدة. وقد تقدم لنا أن هذا التمثيل من التمثيلات المركبة، وهو الذي تشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور، وإن لم يكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى، فيكون المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدين والدنيا بحيرة من انطفأت نارة بعد إيقادها، وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق. وهذا الذي سبق أنه المختار. وقالوا : أيضاً : يكون من التشبيه المفرق، وهو أن يكون المثل مركباً من أمور، والممثل يكون مركباً أيضاً، وكل واحد من المثل مشبه لكل واحد من الممثل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٣
وقد تقدم قولان من جعل هذا المثل من التمثيل المفرق. والثالث : أن الصيب مثل للإسلام والظلمات، مثل لما في قلوبهم من النفاق والرعد والبرق، مثلان لما يخوفون به. والرابع : البرق مثل للإسلام والظلمات، مثل للفتنة والبلاء. والخامس : الصيب : الغيث الذي فيه الحياة مثل للإسلام والظلمات، مثل لإسلام المنافقين وما فيه من إبطان الكفر، والرعد مثل لما في الإسلام من حقن الدماء والاختلاط بالمسلمين في المناكحة والموازنة، والبرق وما فيه من الصواعق مثل لما في الإسلام من الزجر بالعقاب في العاجل والآجل، ويروى معنى هذا عن الحسن. والسادس : أن الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق كانت حقيقة أصابت بعض اليهود، فضرب الله مثلاً بقصتهم لبقيتهم، وروي في ذلك حديث عن ابن مسعود، وابن عباس. السابع : أنه مثل ضربه الله للخير والشر الذي أصاب المنافقين، فكأنهم كانوا إذا كثرت أموالهم وولدهم الغلمان، أو أصابوا غنيمة أو فتحاً قالوا : دين محمد صدق، فاستقاموا عليه، وإذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا : هذا من أجل دين محمد، فارتدوا كفاراً. الثامن : أنه مثل الدنيا وما فيها من الشدة والرخاء والنعمة والبلاء بالصيب الذي يجمع نفعاً بإحيائه الأرض وإنباته النبات وإحياء كل دابة والانتفاع به للتطهير وغيره من المنافع، وضراً بما يحصل به من الإغراق والإشراق، وما تقدمه من الظلمات والصواعق بالإرعاد والإبراق، وأن المنافق يدفع آجلاً بطلب عاجل النفع، فيبيع آخرته وما أعد الله له فيها من النعيم بالدنيا التي صفوها كدر ومآله بعد إلى سفر. التاسع : أنه مثل للقيامة لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم وما فيه من البرق، بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم، ومثل ما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. العاشر : ضرب الصيب مثل لما أظهر المنافقون من الإيمان والظلمات بضلالهم وكفرهم الذي أبطنوه، وما فيه من البرق بما علاهم من خير الإسلام وعلتهم من بركته، واهتدائهم به إلى منافعهم الدنيوية، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وما فيه من الصواعق، بما اقتضاه نفاقهم وما هم صائرون إليه من الهلاك الدنيوي والأخروي.
وقد ذكروا أيضاً أقوالاً كلها ترجع إلى
٨٧
التمثيل التركيبي : الأول : شبه حال المنافقين بالذين اجتمعت لهم ظلمة السحاب مع هذه الأمور، فكان ذلك أشد لحيرتهم، إذ لا يرون طريقاً، ولا من أضاء له البرق ثم ذهب كانت الظلمة عنده أشد منها لو لم يكن فيها برق. الثاني : أن المطر، وإن كان نافعاً إلا أنه لما ظهر في هذه الصورة صار النفع به زائلاً، كذلك إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن، وأما مع عدم الموافق فهو ضرر. الثالث : أنه مثل حال المنافقين في ظنهم أن ما أظهروه نافعهم وليس بنافعهم بمن نزلت به هذه الأمور مع الصواعق، فإنه يظن أن المخلص له منها جعل أصابعه في أذانه وهو لا ينجيه ذلك مما يريد الله به من موت أو غيره. الرابع : أنه مثل لتأخر المنافق عن الجهاد فراراً من الموت بمن أراد دفع هذه الأمور بجعل أصابعهم في آذانهم. الخامس : أنه مثل لعدم خلاص المنافق من عذاب الله بالجاعلين أصابعهم في آذانهم، فإنهم وإن تخلصوا من الموت في تلك الساعة، فإن الموت من ورائهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٣
﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـارَهُم كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ا وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـارِهِمْ﴾.
يكاد : مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة، ووزنها فعل يفعل، نحو خاف يخاف، منقلبة عن واو، وفيها لغتان : فعل كما ذكرناه، وفعل، ولذلك إذا اتصل بها ضمير الرفع لمتكلم أو مخاطب أو نون إناث ضموا الكاف فقالوا : كدت، وكدت، وكدن، وسمع نقل كسر الواو إلى الكاف، مع ما إسناده لغير ما ذكر قول الشاعر :
وكيدت ضباع القف يأكلن جثتيوكيد خراش عند ذلك ييتم


الصفحة التالية
Icon