وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة، بمعنى كونه كاملاً، ولفظه أفصح، ومعناه أصح، لا يساويه في هذين الوصفين كلام، وجاء وصفه بالتشابه بقوله :﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾ معناه يشبه بعضه بعضاً في الجنس والتصديق. وأما هنا فالتشابه ما احتُمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما، نحو :﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ ﴿وَأُتُوا بِهِا مُتَشَابِهًا ﴾ أي : مختلف الطعوم متفق المنظر، ومنه : اشتبه الأمران، إذا لم يفرق بينهما. ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه، وتقول : الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص، أو يحتمل راجحاً أحد الاحتمالين على الآخر، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر، وإلى المرجوح مؤوّل، أو يحتمل من غير رجحان، فمشترك بالنسبة إليهما، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما. والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين.
قال ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة، والربيع، والضحاك : المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ. وقال مجاهد، وعكرمة : المحكم : ما بيَّن تعالى حلاله وحرمه فلم تشتبه معانيه، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه. وقال جعفر بن محمد، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والشافعي : المحكم ما لا يتحمل إلاَّ وجهاً واحداً، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً. وقال ابن زيد : المحكم : ما لم تتكرر ألفاظه، والمتشابه : ما تكررت. وقال جابر بن عبد الله، وابن دئاب، وهو مقتصى قول الشعبي والثوري وغيرهما : المحكم ما فهم العلماء تفسيره، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه : كقيام الساعة، وطلوع الشمس من مغر بها، وخروج عيسى.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
وقال أبو عثمان : المحكم، الفاتحة. وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص، لأن ليس فيها إلاَّ التوحيد فقط. وقال محمد بن إسحاق : المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف. وقال مقاتل : المحكمات خمسمائة آية، لأنها تبسط معانيها، فكانت أمَّ فروع قيست عليها وتولدت منها، كالأم يحدث منها الولد، ولذلك سماها : أم الكتاب، والمتشابه : القصص والأمثال.
وقال يحي بن يعمر : المحكم الفرائض، والوعد والوعيد ؛ والمتشابه : القصص والأمثال. وقيل : المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال. والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة، كأعداد الصلوات، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان. وقيل : المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد، والمتشابه ما اختلف لفظه، كقوله :﴿فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴾ ﴿فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ و﴿قُلْنَا احْمِلْ﴾ و﴿فَاسْلُكْ﴾.
وقال أبو فاختة : المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور : كألم والمر. وقيل : المتشابه فواتح السور، بعكس الأول. وقيل : المحكمات : التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث، والمتشابهات : آلم وآلمّرَ، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها، حين سمعوا : آلم، فقالوا : هذه بالجُمَّلِ : أحد وسبعون، فهو غاية أجل هذه الأمة، فلما سمعوا : ألر، وغيرها، اشتبهت عليهم. أو : ما اشتبه من النصارى من قوله :﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾.
وقيل : المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته، كصفة الوجه، واليدين، واليد، والاستواء.
وقيل : المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله، نحو قوله :
٣٨١
﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ﴾ الآيات و﴿قَضَى ﴾ الآيات وما سوى المحكم متشابه.
وقال أكثر الفقهاء : المحكمات التي أحكمت بالإبانة، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها، لأنها ظاهرة بينه، والمتشابهات : ما خالفت ذلك. وقال بن أبي نجيح : المحكم ما فيه الحلال والحرام. وقال ابن خويز منداذ : المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها، عليّ وابن عباس يقولان : تعتد أقصى الأجلين، وعمر، وزيد، وابن مسعود يقولون : وضع الحمل. وخلافهم في النسخ، وكالاختلاف في الوصية للوراث هل نسخت أم لا. ونحو تعارض الآيتين : أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ؟ نحو :﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ﴾ يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين ﴿وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ يمنع من ذلك ؟
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
ومعنى : أم الكتاب، معظم الكتاب، إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل. وقال يحي بن يعمر : هذا كما يقال لمكة : أم القرى، ولمرو : أم خراسان، و: أم الرأس : لمجتمع الشؤون، إذ هو أخطر مكان.


الصفحة التالية
Icon