وقال الزمخشري :﴿الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ هم أهل البدع، فيتبعون ما تشابه منه، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم، ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق، إبتغاء الفتنة : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم، وإبتغاء تأويله : طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشهونه. إنتهى كلامه. وهو كلام حسن.
﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُا إِلا اللَّه وَالراَّسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ﴾ تم الكلام عند قوله : إلا الله، ومعناه إن الله استأثر بعلمه تأويل المتشابه، وهو قول ابن مسعود، وأبي، وابن عباس، وعائشة، والحسن، وعروة، وعمر بن عبد العزيز، وأبي نهيك الأسدي، ومالك بن أنس، والكسائي، والفراء، ولجلبائي، والأخفش، وأبي عبيد. واختاره : الخطابي والفخر الرازي.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
ويكون قوله ﴿وَالراَّسِخُونَ﴾ مبتدأ و﴿يَقُولُونَ﴾ خبر عنه وقيل : والراسخون، معطوف على الله، وهم يعلمون تأويله، و: يقولون، حال منهم أي : قائلين وروي هذا عن ابن عباس أيضاً، ومجاهد والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وأكثر المتكلمين. ورجح الأول بأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات، وليس الترجيح لبعض إلاَّ بالأدلة اللفظية، وهي ظنية، والظن لا يكفي في القطعيات، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه، ولو كان جائزاً لما ذمّ بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات، وهو ترك للظاهر، ولا يجوز، ولأنه مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا ﴿بِهِا إِنَّهُ﴾ ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح، لأن من علم شيئاً على التفصيل لا بد أن يؤمن به، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى، وقطعوا أنه الحق، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان، ولأنه لو كان : الراسخون، معطوف على : الله، للزم أن يكون : يقولون، خبر مبتدأ وتقديره : هؤلاء، أو : هم، فيلزم الإضمار، أو حال والمتقدّم : الله والراسخون، فيكون حالاً من الراسخين فقط، وفيه ترك للظاهر. ولأن قوله :﴿كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ يقتضي فائدة، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عري عن الفائدة، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يقع جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلاَّ الله، تعالى.
وسئل مالك، فقال : الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. انتهى ما رجح به القول الأول، وفي ذلك نظر، ويؤيد هذا القول قراءة أبي، وابن عباس، فيما رواه طاووس عنه : إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به. وقراءة عبد الله : وابتغاء تأويله إن تأويله إلاَّ عند الله، والراسخون في العلم يقولون.
ورجح ابن فورك القول الثاني وأطنب في ذلك، وفي قوله
٣٨٤
صلى الله عليه وسلّم لابن عباس :"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ما يبين ذلك، أي : علمه معاني كتابك. وكان عمر إذا وقع مشكل في كتاب الله يستدعيه ويقول له : غص غوّاص. ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
وقال ابن عطية : إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر، ولا لبس فيه، ويستوى فيه الراسخ وغيره. والمتشابه منه ما لا يعلمه إلاَّ الله، كأمر الروح، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها، وغير ذلك. ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ إلى غير ذلك. ولا يسمى راسخاً إلاَّ من يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدّر له، وإلاَّ فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ.
فقوله ﴿إِلا اللَّهُ﴾ مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعاً، والراسخون يعلمون النوع الثاني، والكلام مستقيم على فصاحة العرب. ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول : ما قام لنصري إلاَّ فلان وفلان، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك، والآخر أعانك بكلام فقط.
وإن جعلنا ﴿وَالراَّسِخُونَ﴾ مبتدأ مقطعوعاً مما قبله، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ؟ وما الرسوخ إلاَّ المعرفة بتصاريف الكلام، وموارد الأحكام، ومواقع المواعظ ؟.
وإعراب : الراسخين، يحتمل الوجهين، ولذلك قال ابن عباس بهما.


الصفحة التالية
Icon