وقرأ الصديق، وأبو قائله، والجراح : لا تزغ قلوبنا، بفتح التاء ورفع الباء وقرأ بعضهم : لا يزغ بالياء مفتوحة، ورفع باء قلوبنا، جعله من زاغ، وأسنده إلى القلوب. وظاهره نهي القلوب عن الزيغ، وإنما هو من باب : لا أرينك ههنا.
ولا أعرفن ربرباً حوراً مدامعه
أي : لا تزغنا فتزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. ظاهره الهداية التي هي مقابلة الضلال وقيل : بعد اذ هديتنا للعلم بالمحكم، والتسليم للمتشابه من كتابك، و: إذ، أصلها أن تكون ظرفاً، وهنا أضيف إليها : بعد، فصارت إسماً غير ظرف، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية تضاف إلى الجملة، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة، وليست الإضامة إليها تخرجها عن هذا الحكم. ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿هَـاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـادِقِينَ﴾ ؟ ﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ﴾ في قراءة من رفع يوم ؟ وقول الشاعر.
على حين عاتبت المشيب على الصباعلى حين من تكتب عليه ذنوبه
على حين الكرام قليل
ألا ليت أيام الصفاء جديد
كيف خرج الظرف هنا عن بابه، واستعمل خبراً ومجروراً بحرف الجر، واسم ليت، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة ؟.
﴿وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً﴾ سألوا بلفظ الهبة المشعرة بالتفضل والإحسان إليهم من غير سبب ولا عمل ولا معاوضة، لأن الهبة كذلك تكون، وخصوها بأنها من عنده، والرحمة إن كانت من صفات الذات فلا يمكن فيها الهبة، بل يكون المعنى : نعيماً، أو ثواباً صادراً عن الرحمة. ولما كان المسؤول صادراً عن الرحمة، صح أن يسألوا الرحمة إجراءً للسبب مجرى المسبب وقيل : معنى رحمة توفيقاً وسداداً وتثبيتاً لما نحن عليه من الإيمان والهدى.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
﴿إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ هذا كالتعليل لقولهم : وهب
٣٨٦
لنا، كقولك : حل هذا المشكل أنك أنت العالم بالمشكلات، وأتى بصيغة المبالغة التي على فعال، وإن كانوا قد قالوا : وهاب، لمناسبة رؤوس الآي، ويجوز في : أنت، التوكيد للضمير، والفصل، والابتداء.
﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ لما سألوه تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية، وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة، أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة، والبعث فيه للمجازاة، وأن اعتقاد صحة الوعد به هو الذي هداهم إلى سؤال أن لا يزيغ قلوبهم. ومعنى : ليوم لا ريب فيه، أي : لجزاء يوم، ومعنى : لا ريب فيه، لا شك في وجوده لصدق من أخبر به، وإن كان يقع للمكذب به ريب فهو بحال ما لا ينبغي أن يرتاب فيه.
وقيل : الللام، بمعنى : في، أي : في يوم، ويكون المجموع لأجله لم يذكر، وظاهر هذا الجمع أنه الحشر من القبور للمجازاة، فهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال، ويدل على أنه مستقبل قراءة أبي حاتم : جامع الناس، بالتنوين، ونصب : الناس.
وقيل : معنى الجمع هنا أنه يجمعهم في القبور، وكأن اللام تكون بمعنى إلى للغاية، أي : جامعهم في القبور إلى يوم القيامة، ويكون اسم الفاعل هنا لم يلحظ فيه الزمان، إذ من الناس من مات، ومنهم من لم يمت، فنسب الجمع إلى الله من غير اعتبار الزمان، وا لضمير في : فيه، عائد على اليوم، إذ الجملة صفة له، ومن أعاده على الجمع المفهوم من جامع، أو على الجزاء الدال عليه المعنى، فقد أبعد.
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ ظاهر العدول من ضمير الخطاب إلى الاسم الغائب يدل على الاستئناف، وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين الداعين.
قال الزمخشري : معناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد، كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله، والميعاد : الموعد. انتهى كلامه، وفيه دسيسه الاعتزال بقوله : إن الإلهية تنافي خلف الميعاد. وقد استدل الجبائي بقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ على القطع بوعيد الفساق مطلقاً، وهو عندنا مشروط بعدم العفو، كما اتفقنا نحن وهم على أنه مشروط بعدم التوبة، والشرطان يثبتان بدليل منفصل، ولئن سلمنا ما يقولونه فلا نسلم أن الوعيد يدخل تحت الوعد.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
وقال الواحدي : يجوز حمله على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب، ولذلك يمدحون به قال الشاعر :
إذا وعد السرّاءَ أنجز وعدهوإن وعد الضراءَ فالعفو مانعه
ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الداعين، ويكون ذلك من باب الالتفات، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة، وكأنهم لما والوا الدعاء بقولهم : ربنا، أخبروا عن الله تعالى بأنه الوفي بالوعد. وتضمن هذا الكلام الإيمان بالبعث، والمجازاة، والإيفاء بما وعد تعالى.


الصفحة التالية
Icon