وذهب قاضي القضاة بالأندلس : أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي، رحمه الله ورضى عنه، إلى أن ذكر آدم ونوح تضمن الإشارة إلى المؤمنين من بينهما، وأن الآل الأتباع، فالمعنى أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم، ولأن الكلام في قصة بعضهم. إنتهى ما قال ملخصاً، وقوله شبيه في المعنى بقول من تأول قوله آدم وما بعده على حذف مضاف، أي : أن الله اصطفى دين آدم.
وروي معناه عن ابن عباس، قال : المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان، واختاره الفراء. وقال التبريزي : هذا ضعيف، لأنه لو كان ثَمَّ مضاف محذوف لكان : ونوح مجروراً، لأن آدم محله الجر بالإضافة، وهذا الذي قاله التبريزي ليس بشيء، ولولا تسطيره في الكتب ما ذكرته. لأنه لا يلزم أن يجر المضاف إليه إذا حذف المضاف، فيلزم جر ما عطف عليه، بل يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف المحذوف. ألا ترى إلى قوله واسأل القرية ؟ وأما إقراره مجروراً فلا يجوز إلا بشرط ذكر في علم النحو.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
﴿عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾ متعلق باصطفى، ضمنه معنى فضل، فعداه بعلى. ولو لم يضمنه معنى فضل لعدى بمن. قيل : والمعنى على عالمي زمانهم، واللفظ عام، والمراد به الخصوص كما قال جرير :
ويضحى العالمون له عيالاً
وقال الحطيئة :
أراح الله منك العالمينا
وكما تؤول في ﴿وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ﴾.
وقال القتبي : لكل دهر عالم، ويمكن أين يخص بمن سوى هؤلاء، ويكون قد اندرج في قوله : وآل إبراهيم محمد صلى الله عليه وسلّم، فيكون المعنى : أن هؤلاء فضلوا على من سواهم من العالمين. واشتراكهم في القدر المشترك من التفضيل لا يدل على التساوي في مراتب التفضيل، كما تقول : زيد وعمر وخال أغنياء، فاشتراكهم في القدر المشترك من الغنى لا يدل على التساوي في مراتب الغنى، وإذا حملنا : العالمين، على من سوى هؤلاء، كان في ذلك دلالة على تفضيل البشر على الملائكة، لأنهم من سوى هؤلاء الصطفين، وقد استدل بالآية على ذلك. ولا يمكن حمل : العالمين، على عمومه لأجل التناقض، لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين، يلزم كل واحد منهم أن يكون أفضل من الآخر، وهو محال.
وقرأ عبد الله : وآل محمد على العالمين.
﴿ذُرِّيَّةَا بَعْضُهَا مِنا بَعْضٍ﴾ أجازوا في نصب : ذرية، وجهين :.
أحدهما : أن يكون بدلاً. قال الزمخشري ﴿يَـامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاكِ﴾ يعني أن الآلين ذرية واحدة، وقال غيره بدل من نوح ومن عطف عليه من الأسماء. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون بدلاً من آدم لأنه ليس بذرية انتهى. وقال ابن عطية : لا يسوغ أن تقول في والد هذا ذرية لولده. وقال الراغب : الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل. كقوله :﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ أي آباءهم، ويقال للنساء : الذراري. وقال صاحب النظم : الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء، والابناء ذرية للآباء، وجاز ذلك لأنه من ذرأ الله الخلق، فالأب ذرىء منه الولد، والولد ذرىء من الأب. وقال معناه النقاش فعلى قول الراغب وصاحب النظم، يجوز أن يكون : ذرية، بدلاً من : آدم، ومن عطف عليه.
وأجازوا أيضاً نصب : ذرية، على الحال، وهو الوجه الثاني من الوجهين، ولم يذكره الزمخشري، وذكره ابن عطية. وقال : وهو أظهر من البدل.
وتقدّم الكلام على ذرية دلالةً واشتقاقاً ووزناً، فأغنى عن إعادته.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
وقرأ زيد بن ثابت والضحاك : ذِرية، بكسر الذال، والجمهور بالضم.
﴿بَعْضُهَا مِنا بَعْضٍ﴾ جملة في موضع الصفة لذرية
٤٣٥
و : من، للتبعيض حقيقة أي : متشعبة بعضها من بعض في التناسل، فإن فسر عمران بوالد موسى وهارون فهما منه، وهو من يصهر، ويصهر من قاهث، وقاهث من لاوي، ولاوى من يعقوب، ويعقوب من إسحاق، وإسحاق من إبراهيم عليهم السلام. وإن فسر عمران بوالد مريم أم عيسى، فعيسى من مريم، ومريم من عمران بن ماثان، وهو من ولد سليمان بن داود، وسليمان من ولد يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وقيل : من، للتبعيض مجازاً أي : من بعض في الإيمان والطاعة والإنعام عليهم بالنبوّة، وإلى نحو من هذا ذهب الحسن، قال : من بعض في تناصر الدين، وقال أبورون : بعضها على دين بعض. وقال قتادة : في النية والعمل والإخلاص والتوحيد.
﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لما يقوله الخلق، عليم بما بضمرونه. أو : سميع لما تقوله امرأة عمران، عليم بما تقصد. أو : سميع لما تقوله الذرية، عليم بما تضمره. ثلاثة أقوال.
وقال الزمشخري : عليم بمن يصلح للاصطفاء، أو : يعلم أن بعضهم من بعض في الدين. إنتهى.