وجاء في الحديث عن ابن العاصي، ما معناه : أن يحيى لم يكن له ما للرجل إلاَّ مثل هذا العود، يشير إلى عويد صغير. وفي رواية أبي هريرة : كان ذكره مثل هذه القذاة، يشير إلى قذاة من الأرض أخذها. وقد استدل بقوله ﴿وَحَصُورًا﴾ من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمذهب أبي حنيفة، فإنه بالعكس.
﴿وَنَبِيًّا﴾ هذا الوصف الأشرف، وهو أعلى الأوصاف، فذكر أولاً الوصف الذي تبنى عليه الأوصاف بعده، وهو : التصديق الذي هو الإيمان، ثم ذكر السيادة وهي الوصف يفوق به قومه، ثم ذكر الزهادة وخصوصاً فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء، ثم ذكر الرتبة العليا وهي : رتبة النبوّة. وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف. مريم عليها السلام، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة، وما خصها الله تعالى به من الخوارق للعادة، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة، فأجابة إلى ذلك، ووهب له يحيى على وفق. ما طلب، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة، وكان يحيى سيداً، فاشتركا في هذا الوصف. وكانت مريم عذراء بتولاً لم يمسسها بشر وكان يحيى لا يقرب النساء. وكانت مريم أتاها الملك رسولاً من عند الله وحاوراها عن الله بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية، وكان يحيى نبياً، وحقيقة النبوّة هو أن يوحي الله إليه، فقد اشتركا في هذا الوصف.
﴿مِّنَ الصَّـالِحِينَ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء، كما قال :﴿ذُرِّيَّةَا بَعْضُهَا مِنا بَعْضٍ﴾ ويحتمل أن يكون المعنى : وصالحاً من جملة الصالحين. كما قال تعالى في وصف إبراهيم ﴿وَإِنَّه فِى الاخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ قال ابن الأنباري : معناه من صالحي الحال عند الله قال الكرماني : خص الأنبياء بذكر الصلاح لأنه لا يتخلل صلاحهم خلاف ذلك وقال الزجاج : الصالح هو الذي يؤدي ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم. انتهى.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
وقد قال سليمان بعد حصول النبوّة له ﴿وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ﴾ قيل : وتحقيق ذلك أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوّة، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر، فمن كان أكثر نصيباً من الصلاح كان أعلى قدراً.
وقال الماتريدي : الصلاح يتحقق في كل نبي من جميع الوجوه، وفي غيرهم لا يتحقق إلاَّ بعضها، وإن كان الاسم ينطلق على الكل لكن سبب استحقاق الاسم في الأنبياء هو تحقيق الصلاح من جميع الوجوه، وفي غيرههم من بعضها، فخصه بالذكر حتى ينقطع احتمال جواز النبوّة في مطلق المؤمنين، فكان تقييده باسم الصلاح مفيداً.
وقيل : من الصالحين في الدنيا والآخرة، فيكون إشارة إلى الدوام على الإيمان، والأمن من خوف الخاتمة.
﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ﴾ كان قد تقدّم سؤاله به :﴿رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ فلا شك في إمكانية ذلك، وجوازه : وإذا كان ذلك ممكناً وبشرته به الملائكة، فما وجه هذا الاستفهام ؟.
وأجيب بوجوه :.
أحدهما : أنه سؤال عن الكيفية، والمعنى : أيولد لي على سن الشيخوخة وكون امرأتي عاقراً ؟ أي بلغت سن من لا تلد، وكان قد بلغ تسعاً وتسعين سنة، وامرأته بلغت ثمانياً وتسعين سنة وقال ابن عباس : كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وقال الكلبي : ابن اثنتين وتسعين سنة.
أم أُعاد أنا وامرأتي إلى سن الشبيبة وهيئة من يولد له ؟ فأجيب : بأنه يولد له على هذه الحال. قال معناه : الحسن، والأصم.
الثاني : أنه لما بشر بالولد استعلم : أيكون ذلك الولد من
٤٤٩
صلبه نفسه أم من بنيه ؟.
الثالث : أنه كان نسي السؤال، وكان بين السؤال والتبشير أربعون سنة ونقل عن سفيان أنه كان بينهما ستون سنة.
الرابع : أن هذا الاستعلام هو على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى، يحدث ذلك عند معاينة الآيات وهو يرجع معناه إلى ما قاله بعضهم : إن ذلك من شدّة الفرح، لكونه كالمدهوش عند حصول ما كان مستعبداً له عادة.
الخامس : إنما سأل لأنه كان عاجزاً عن الجماع لكبر سنه، فسأل ربه : هل يقويه على الجماع وامرأته على القبول على حال الكبر ؟
السادس : سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم من غيرها.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
السابع : أنه لما بشر بالولد أتاه الشيطان ليكدر عليه نعمة ربه، فقال له : هل تدري من ناداك ؟ قال : ملائكة ربي قال له : بل ذلك الشيطان، ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك، فخالطت قلبه وسوسة، فقال :﴿أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ﴾ ليبين الله له من الوحي، قاله عكرمة، والسدي. قال القاضي : لو اشتبه على الرسل كلام الملك بكلام الشيطان لم يبق الوثوق بجميع الشرائع.