وقرأ ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو : وإذ قال الملائكة، وفي نداء الملائكة لها باسمها تأنيس لها وتوطئة لما تلقيه إليها ومعمول القول الجملة المؤكدة : بإن.
والظاهر مشافهة الملائكة لها بالقول قال الزمخشري : روي أنهم كلموها شفاهاً معجزة لزكريا، أو إرهاصاً لنبوّة عيسى. انتهى. يعني : بالارهاص التقدّم، والدلالة على نبوّة عيسى وهذا مذهب المعتزلة، لأن الخارق للعادة عندهم لا يكون على يد غير نبي إلاَّ إن كان في وقته نبي، أو انتظر بعث نبي، فيكون ذلك الخارق مقدمة بين يدي بعثة ذلك النبي.
﴿وَطَهَّرَكِ﴾ التطهير هنا من الحيض، قاله ابن عباس قال السدي : وكانت مريم لا تحيض. وقال قوم : من الحيض والنفاس وروي عن ابن عباس : من مس الرجال وعن مجاهد : عما يصم النساء في خلق وخلق ودين، وعنه أيضاً : من الريب والشكوك.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥٤
﴿وَاصْطَفَـاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَـالَمِينَ﴾ قيل : كرر على سبيل التوكيد والمبالغة وقيل : لا توكيد إذ المراد بالاصطفاء الأول اصطفاء الولاية، وبالثاني اصطفاء ولادة عيسى، لأنها بولادته حصل لها زيادة اصطفاء وعلو منزلة على الأكفاء وقيل : الاصطفاء الأول : اختيار وعموم يدخل فيه صوالح من النساء، والثاني : اصطفاء على نساء العالمين.
٤٥٥
وقيل : لما أطلق الاصطفاء الأول بيّن بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال وقال الزمخشري : اصطفاك أوّلاً حين تقبلك من أمّك ورباك، واختصك بالكرامة السنية، وطهرك مما يستقذر من الأفعال، ومما قذفك به اليهود، واصطفاك آخراً على نساء العالمين بأن وهب لك عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. انتهى. وهو كلام حسن، ويكون : نساء العالمين، على قوله عاماً، ويكون الأمر الذي اصطفيت به من أجله هو اختصاصها بولادة عيسى وقيل : هو خدمة البيت وقيل : التحرير ولم تحرر أنثى غير مريم وقيل : سلامتهها من نخس الشيطان وقيل : نبوتها، فإنه قيل إنها نبئت، وكانت الملائكة تظهر لها وتخاطبها برسالة الله لها، وكان زكريا يسمع ذلك، فيقول : إن لمريم لشأناً. والجمهور على أنه لم ينبأ امرأه، فالمعنى الذي اصطفيت لأجله مريم على نساء العالمين هو شيء يخصها، فهو اصطفاء خاص إذ سببه خاص وقيل : نساء العالمين، خاص بنساء عالم زمانها، فيكون الاصطفاء إذ ذاك عاماً، قاله ابن جريج.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"خير نساء الجنة مريم بنت عمران". وروي :"خير نسائها مريم بنت عمران" وروي :"خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد" وروي :"فضلت خديجة على نساء أمّتي كما فضلت مريم على نساء العالمين" وروي : أنها من الكاملات من النساء.
وقد روي في الأحاديث الصحاح تفضيل مريم على نساء العالمين، فذهب جماعة من المفسرين إلى ظاهر هذا التفضيل قال بعض شيوخنا : والذي رأيت ممن اجتمعت عليه من العلماء، أنهم ينقلون عن أشياخهم : أن فاطمة أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات لأنها بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
﴿الْعَـالَمِينَ * يَـامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ﴾ لا خلاف بين المفسرين أن المنادي لها بذلك الملائكة الذين تقدّم ذكرهم على الخلاف المذكور، والمراد بالقنوت هنا : العبادة، قاله الحسن، وقتادة. أو : طول القيام في الصلاة، قاله مجاهد، وابن جريج، والربيع، أو : الطاعة، أو : الإخلاص، قاله ابن جبير.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥٤
وفي قوله : لربك، إشارة إلى أن تفرّده بالعبادة وتخصصه بها، والجمهور على ما قاله مجاهد، وهو المناسب في المعنى لقوله :﴿وَاسْجُدِى وَارْكَعِى﴾ وروي مجاهد أنها : لما خوطبت بهذا قامت حتى ورمت قدماها. وقال الأوزاعي : قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها. وروي : أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جماداً لسكونها في طول قيامها.
﴿وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ﴾ أمرتها الملائكة بفعل ثلاثة أشياء من هيئات الصلاة، فإن أريد ظاهر الهيئات فهي معطوفة بالواو، والواو لا ترتب، فلا يسأل لم قدم السجود على الركوع إلاَّ من جهة علم البيان.
والجواب : أن السجود لما كانت الهيئة التي هي أقرب ما يكون العبد فيها إلى الله قدم، وإن كانت متأخراً في الفعل على الركوع، فيكون إذ ذاك التقديم بالشرف. وقيل : كان السجود مقدّماً على الركوع في شرع زكريا وغيره منهم، ذكره أبو موسى الدمشقي. وقيل : في كل الملل إلاَّ ملة الإسلام، فجاء التقديم من حيث الوقوع في ذلك الشرع، فيكون إذ ذاك التقديم زمانياً من حيث الوقوع، وهذا التقديم أحد الأنواع الخمسة التي ذكرها البيانيون، وكذلك التقديم الذي قبله، وتوارد الزمخشري، وابن عطية على أنه لا يراد ظاهر الهيئات.