أشهر، ومن ولد لذلك لم يعش، فكان ذلك بشارة لها بعيشه إلى هذا السن. وقيل : كانت العادة أن من تكلم في المهدمات، وفي قوله :﴿فِى الْمَهْدِ وَكَهْلا ﴾ إشارة إلى تقلب الأحوال عليه، ورد على النصارى في دعواهم إلهيته. وقال ابن كيسان : ذكر ذلك قبل أن يخلقه إعلاماً به أنه يكتهل، فإذا أخبرت به مريم علم أنه من علم الغيب. واختلف في كلامه : في المهد، أكان ساعة واحدة ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق ؟ أو كان يتكلم دائماً في المهد حتى بلغ إبان الكلام ؟ قولان : الأول : عن ابن عباس.
ونقل الثعالبي أشياء من كلامه لأمه وهو رضيع، والظاهر أنه كان حين كلم الناس في الهد نبياً لقوله :﴿قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَـانِىَ الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى﴾ ولظهور هذه المعجزة منه والتحدي بها. وقيل : لم يكن نبياً في ذلك الوقت، وإنما كان الكلام تأسيساً لنبوته، فيكون قوله :﴿وَجَعَلَنِى نَبِيًّا﴾ إخباراً عما يؤول إليه بدليل قوله :﴿وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ﴾ ولم يتعرض لوقت كلامه إذا كان كهلاً، فقيل : كلامه قبل رفعه إلى السماء كلمهم بالوحي والرسالة.
وقيل : ينزل من السماء كهلاً ابن ثلاث وثلاثين سنة، فيقول لهم : إني عبد الله، كما قال في المهد، وهذه فائدة قوله : وكهلاً، أخبر أنه ينزل عند قتله الدجال كهلاً، قاله ابن زيد. وقال الزمشخري : معناه : ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، وينبأ فيها الأنبياء. إنتهى.
قيل : وتكلم في المهد سبعة : عيسى، ويحيى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج. وصبي ماشطة امرأة فرعون، وصاحب الجبار، وصاحب الأخدود، وقصص هؤلاء مروية، ولا يعارض هذا ما جاء من حصر من تكلم رضيعاً في ثلاثة، لأن ذلك كان إخباراً قبل أن يعلم بالباقين، فأخبر على سبيل ما أعلم به أولاً، ثم أعلم بالباقين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥٤
﴿وَمِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ أي : وصالحاً من جملة الصالحين، وتقدم تفسير الصلاح الموصوف به الأنبياء.
وانتصاب : وجيهاً، وما عطف عليه على الحال من قوله : بكلمة منه، وحسن ذلك، وإن كان نكرة، كونه وصف بقوله : منه، وبقوله : منه، وبقوله : اسمه المسيح.
﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ﴾ لما أخبرتها الملائكة أن الله بشرها بالمسيح، نادت ربها، وهو الله، مستفهمة على طريق التعجب من حدوث الولد من غير أب إذ ذاك من الأمور الموجبة للتعجب، وهذه القضية أعجب من قضية زكريا، لأن قضية زكريا حدث منها الولد بين رجل وامرأة، وهنا حدث من امرأة بغير واسطة بشر، ولذلك قالت :﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ﴾.
وقيل : استفهمت عن الكيفية، كما سأل زكريا عن الكيفية، تقديره : هل يكون ذلك على جري العادة بتقدم وطء ؟ أَمْ بأمر من قدرة الله ؟.
وقال الانباري : لما خاطبها جبريل ظنته آدمياً يريد بها سوءاً، ولهذا قالت :﴿إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَـانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا﴾ فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله لأنها لم تعلم أنه ملك، فقال :﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ﴾ ؟
ومن ذهب إلى أن قولها : رب، وقول زكريا : رب، إنما هو نداء لجبريل لما بشرهما، ومعناه : يا سيدي فقد أبعد وقال الزمخشري : هو من بدع التفاسير، و: يكون، يحتمل أن تكون الناقصة والتامة، كما سبق في قصة زكريا. و: لم يمسسني بشر، جملة حالية، والمسيس هنا كناية عن الوطء، وهذا نفي عام أن يكون باشرها أحد بأي نوع كان من تزوّج أو غيره، والبشر يطلق على الواحد والجمع، والمراد هنا النفي العام، وسمي بشراً لظهور بشرته وهو جلده، وبشرت الأديم قشرت وجهه، وأبشرت الأرض أخرجت نباتها، وتباشير الصبح أول ما يبدو من نوره.
﴿قَالَ كَذَالِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ تقدم الكلام في نظيرها في قصة زكريا، إلاَّ أن في قصته ﴿يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان العادي الذي يتعارف، وإن قل، وفي قصة مريم : يخلق، لأنه لا يتعارف مثله، وهو وجود ولد من غير والد، فهو إيجاد واختراع من غير سبب عادي، فلذلك جاء بلفظ : يخلق، الدال على هذا المعنى.
وقد ألغز بعض العرب المستشهد بكلامها فقال :
٤٦٢
ألا رب مولود وليس له أبوذي ولد لم يلده أبوان يريد : عيسى وآدم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥٤
﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة : لغةً وتفسيراً وقراءةً وإعراباً، فأغنى ذلك عن إعادته.
﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالانجِيلَ﴾ الكتاب : هنا مصدر، أي : يعلمه الخط باليد، قاله ابن عباس، وابن جريج وجماعة وقيل : الكتاب هو كتاب غير معلوم، علمه الله عيسى مع التوراة والإنجيل وقيل : كتب الله المنزلة. والألف واللام للجنس وقيل : هو التوراة والإنجيل.